مقالات مختارة

الجريمة والمجرمون والشهود

فايز سارة
1300x600
1300x600

تمثل مساعي السوريين للسفر خارج سوريا واحدة من أبرز الظواهر في مناطق سيطرة نظام الأسد، وبين أبرز مؤشرات الظاهرة، كثافة المراجعين في مديريات الهجرة والجوازات للحصول على جوازات سفر أو تجديد القديم منها، والضغط الكثيف على خطوط الطيران السورية، وبخاصة شركة «أجنحة الشام»، التي تعد الناقل الجوي الرئيسي الذي يربط دمشق ببعض المدن والعواصم العربية والأجنبية، وثمة كثافة كبيرة على خطوط السفر البري إلى لبنان بوصفه بوابة سفر السوريين نحو العالم الخارجي، وتكثفت في الأشهر الأخيرة حركة سفر المقيمين في مناطق سيطرة النظام باتجاه مناطق سيطرة قوات «قسد» في شرق الفرات، إضافةً إلى التوجه نحو مناطق شمال الغرب، التي تسيطر عليها تركيا والتشكيلات الإسلامية قرب بوابات السفر إلى تركيا وبخاصة من مناطق حلب وحماة. ويرتبط اتساع ظاهرة سفر السوريين مع تدهور الأوضاع المعاشية في مناطق سيطرة النظام بعد انهيار قيمة العملة السورية مقابل العملات الدولية وما جرّه ذلك من ارتفاعات هائلة في أسعار السلع والخدمات، وفقدان كثير من البضائع والسلع بما فيها سلع أساسية، بالتوازي مع اختلالات نظام الإدارة، وتعميم الفساد والخاوات إلى جانب الضغوط الأمنية وما يرافقها من عمليات ابتزاز، وكله يترافق مع غياب حكومي في معالجة أي قضية أو مشكلة. بل إن ثمة قناعات تتزايد لدى غالبية المقيمين في مناطق سيطرة النظام، أن تفاقم المشكلات وبخاصة المشكلات المعاشية هو سياسة رسمية، يتم تنفيذها، بهدف تطفيش ما أمكن من السوريين سواء للخارج أو إلى مناطق سيطرة قوات «قسد» في شرق الفرات، أو المناطق التي تتشارك السيطرة فيها تركيا مع تشكيلات مسلحة أغلبها من الجماعات الإسلامية.


وللحق فإن ما يتم تنفيذه من سياسات النظام في مفاقمة الأوضاع المعاشية، هو سلوك مقصود، ويمثل سياسة رسمية بين أهدافها غير المعلنة، تهجير مزيد من السوريين ودفعهم إلى مصائر مجهولة، يتشاركون مسؤوليتها في أماكن إقامتهم الجديدة، وينشغلون بأوضاعهم بدل أن يكونوا تحت مسؤولية النظام، وأن يقوموا بمعارضته أو انتقاده حتى من أجل سياسات أفضل.

ومنذ عام 2012 جرى إدخال عامل جديد على سياسة النظام في التهجير، حيث جرى تعزيزها بعمليات تغيير ديمغرافي، وتمت عمليات إحلال سكان جدد مكان السكان الأصليين في كثير من المدن والقرى، وكان من أولى الخطوات في هذا السياق، ما حدث في مدن وقرى مثل القصير في ريف حمص ويبرود في ريف دمشق، وقد وُضعت تحت تصرف ميليشيات «حزب الله» اللبناني، وصارت مدينة السيدة زينب وما يحيط بها من قرى وبلدات تحت تصرف الميليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية، وجرى تحويل تلك المدن والقرى إلى تجمعات سكنية للوافدين وعائلاتهم من جهة، ومراكز تدريب وقواعد ميليشياتهم من جهة أخرى.


وثمة تطور خاص طرأ على سياسة التغيير الديمغرافي عام 2017 في إطلاق عمليات تبادل سكاني بين قرى شيعية في إدلب وأخرى سنية في وادي بردى غرب دمشق، وهي الحالة التي تمثلها اتفاقية البلدات الأربعة، التي شاركت فيها أطراف إقليمية بينها إيران إلى جانب ميليشيات بينها «حزب الله» اللبناني وتنظيمات إسلامية مسلحة متطرفة منها هيئة تحرير الشام، ولم يُسمح لهذه التجربة بأن تتكرر بفعل محتوى الاتفاقية، وما جرى حولها من تعتيم واتهامات، وسط اعتراضات ورفض شعبي واسع في سوريا.


ومما لا شك فيه، أن سياسات نظام الأسد وحلفائه في عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي، التي جرت في القرى والمدن الصغرى مثل القصير ويبرود والسيدة زينب، كان من الصعب تكرارها أو استنساخها في المدن الكبرى ومنها دمشق وحلب واللاذقية وغيرها، مما فرض إجراء تغييرات في تلك السياسات من حيث شكلها ومساراتها، لكن مع الحفاظ على جوهر أهدافها في الدمج بين تهجير ما أمكن من سكان المدن الكبرى والقيام بتغيير ديمغرافي في سكانها، وهو ما تكرسه سياسات نظام الأسد اليوم في مناطق سيطرتها بصورة واضحة.


ففي عموم هذه المناطق، وكما سبقت الإشارة يجري تضييقٌ معاشيٌّ على السكان، ودفعهم للمغادرة، التي تبدو مخرجاً مؤقتاً من المعاناة، ثم تتحول لاحقاً إلى تهجير وهجرة وتوطين في الخارج بفعل عوامل متعددة، ويتوازى معها تغيير ديمغرافي مؤلف من شقين، يقوم بهما الإيرانيون خصوصاً، الأول هو جلب وافدين وإحلالهم في هذه المدن، والآخر توسيع عمليات التشييع في تلك المدن، وهو تشييع يتجاوز الطابع المذهبي ليأخذ طابعاً له أبعاد أمنية وعسكرية، ثم اقتصادية واجتماعية وثقافية، يصعب إعادة تفكيكها مع مرور الوقت.


إن الحالة على نحو ما تظهر عليه من تعقيد وخطورة، تحتاج إلى وقفة جدية، ليس من جانب السوريين فقط، وهذا أمر طبيعي، بل من المحيط الإقليمي والدولي الذي يعاني من النتائج الكارثية لتهجير السوريين، وهي أكبر عملية تهجير في العالم، وسوف نرى لاحقاً ما هو أشد في كارثة التغيير الديمغرافي العميق، بما فيها ولها من تأثيرات خطيرة على مستقبل الشرق الأوسط كله وعلاقاته بالعالم. وحتى يكون الأمر أكثر وضوحاً، فإن آثار التهجير والتغيير الديمغرافي لا تخص البلدان العربية أو بعضها، كما يمكن للبعض أن يفكر، بل ستصيب جميع دول المنطقة بما فيها تركيا وإيران ذاتها، إضافةً إلى الجوار والأبعد منه، لأنها سوف تفتح بوابة صراعات لن تنتهي على مدار عقود في وقت تحتاج المنطقة إلى مرحلة تهدئة، تسبق سلاماً عادلاً بين كل أطرافها، يكون مدخلاً لتعاون إقليمي - دولي من أجل مصلحة شعوب المنطقة والعالم. لقد آن لشهود الكارثة السورية، وما يحصل فيها من جرائم وبخاصة التهجير والتغيير الديمغرافي، أن يخرجوا عن صمتهم، ويتوقف المتواطئون عن تواطئهم، وأن يتحول الجميع إلى فاعلين في مواجهة جرائم، تتوفر كل عوامل وقفها ومعاقبة القائمين بها بأقل قدر من التكاليف، إذا قورنت بآثارها الراهنة فقط، وليس بآثارها المستقبلية المدمرة للمنطقة وقسم كبير من العالم.

 

(الشرق الأوسط اللندنية)


1
التعليقات (1)
أبو العبد الحلبي
الأحد، 26-09-2021 02:38 م
قرأت ، منذ زمن بعيد ، أن مسألة فهم السياسة الدولية "و منها الإقليمية" هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لأي شعب و رأيت البراهين تتابع على صحة ذلك في سنوات الخمسينيات من القرن الماضي "التي كانت ساخنة بالأحداث" فألزمت نفسي بمتابعة الأخبار يومياً بأية وسيلة متاحة . بطبيعة الحال ، توجد كميات هائلة من الكذب في طريقة عرض الأخبار من آلة الإعلام الدولية – التي ننقل عنها – و في تصريحات أغلب السياسيين حول العالم و في تحليلات الأحداث عبر الوسائل . هذا الكذب فيه تضليل كبير للناس وهو مقصود من الجهات النافذة في العالم و بالتالي كان في هذا صعوبات جمَة في الوصول إلى الحقائق بسرعة و أحياناً يحتاج المرء أن ينتظر زمناً – قد يكون قصيراً أو طويلاً – حتى يرى نتائج ملموسة على أرض الواقع لكي يتوصل إلى الصواب في التحليل و الرأي . كلما تابع المرء – الذي يهتم بأمته – الأخبار ، كلما زاد غيظه على هذا الواقع الحالي البائس لأمتنا و لكن هذه المرارة لا يجوز أن تثني المرء عن المتابعة و التي تؤدي لتغيير بعض الناس محطات الإذاعة و التلفاز أو تجنب مواقع الانترنت المعنية . من لا يتابع سيضيع و سيتخبط و لن يعرف عدوه من صديقه و سيخسر كثيراً و ستهبط عليه الأحداث من دون أن يكون لديه احتياطات مسبقة . تستحق سوريا الحبيبة منا أن نبذل الجهود الهائلة في المعرفة المتعمقة مثلاً لتاريخها الحديث الذي قاد لحاضرها الأليم الفظيع . في تحليلي المتواضع أن أكثر الأيام شؤماً في حياة سوريا هو 8 آذار/مارس سنة 1963 حين حصل فيها انقلاب "بتدبير أمريكي" سار حتى أوصل الماسوني مجهول النسب حافظ الأسد إلى منصب الرئاسة سنة 1970. أن يستمر في منصبه 30 سنة في "بلد الانقلابات" كان في ذلك مؤشر على أنه مدعوم من أقوى بلطجي في العالم . كان إعلام الدجل السوري يهاجم أمريكا و الامبريالية و الرجعية ... بالأقوال و لسنوات ، و فجأة رأينا حافظ يضع جيشه تحت قيادة الجنرال الأمريكي "نورمان شوارتزكوف " في حرب الخليج الأولى. و حين هلك حافظ ، طارت إلى دمشق وزيرة خارجية أمريكا "مادلين أولبرايت" و اختلت بالمعتوه بشار عدة ساعات فإذا بالإعلام – بعد انتهاء الخلوة – يتكلم عنه بلقب "فخامة الرئيس" قبل أن ينعقد مجلس الشعب "أو مجلس الدمى" . بالمتابعة الحثيثة للأخبار ، توصلت إلى قناعة أن أمريكا تسيطر على جميع "قمعستان" أي الوطن الممتد من الخليج النائم إلى المحيط الهائم . تتابع أمريكا تفاصيل التفاصيل في هذا الوطن و لا شيء فيه يحدث رغماً عنها بل بالعكس تكون هي المحرَك للأحداث . إياكم أن تظنوا أن مليشيات إيران و جيش الروس دخلوا لسوريا ضد إرادة أمريكا و إياكم أن تظنوا أن تهجير المسلمين من سوريا و إحلال المستوطنين من أتباع الدين الشيعي الفارسي قد جرى في غفلة عن أمريكا . هذه ليست أوهاماً بل هي الحقيقة المريرة التي نسأل الله أرحم الراحمين و نرجوه أن يضع حدَاً لكيد الكائدين و مكر الماكرين الذين توجهت سهام حقدهم و لؤمهم نحو سوريا بشكل غير مسبوق في التاريخ . المعذرة على الإطالة ، لكن الموضوع هام للغاية .