صحافة دولية

لوموند: أزمة لبنان تكشف ستار قضايا الانتحار المسكوت عنها

pexels-photo-6116650
pexels-photo-6116650
نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرا، تحدثت فيه عن تنامي حالات الانتحار في لبنان، وسط تردي الأوضاع المعيشية، وتفاقم الأزمات التي تعاني منها البلاد، التي يعتبر ضعاف الحال أول المتضررين منها.

وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إنه في ظل الوضع المزري على جميع الأصعدة في لبنان، أصبحت حالات الانتحار ظاهرة منتشرة أكثر مما يمكن إخفاؤه أو التكتم عنه، وهذا دليل على أن الاضطرابات النفسية من المواضيع المسكوت عنها في هذا البلد.

وأشارت الصحيفة إلى أن رنيم (البالغة من العمر 7 سنوات) تواظب على زيارة قبر والدها علي الفليتي في مقبرة في عرسال، وهي بلدة لبنانية على الحدود مع سوريا، رفقة ابن عمها أحمد. وكل أسبوع، تأتي رنيم لسقاية زهور السوسن المزروعة حول قبر والدها، الذي شنق نفسه في كانون الأول/ ديسمبر 2019 خلف المنزل.

كان علي يعمل في مجال تزيين الأحجار عندما انتحر وهو في الأربعين من العمر، وقد دُفن حسب الأصول الإسلامية، على الرغم من أن الدين الإسلامي والمسيحي على حد سواء يحرّمان الانتحار. وحسب أرملته، يحرّم الإسلام صلاة الجنازة على جسد المنتحر، لكن علي يعد أحد شهداء الفقر، بحكم الأمر الواقع.

وذكرت الصحيفة أن حادثة انتحار علي تزامنت مع بداية الانهيار المالي الذي واجهه لبنان في سنة 2019. وتعكس حالات الانتحار حالة اليأس التي وصل إليها جميع اللبنانيين، الذين باتوا مستعدين لوضع حد لحياتهم، تعبيرا عن رفضهم حياة الذل والمهانة التي فرضت عليهم، لاسيما عندما تتقطع بهم السبل لإعالة أسرهم.

بلغ لبنان منذ أشهر وضعًا حرجا لم يسبق له مثيل، حيث يعيش أزمة مالية واقتصادية زادت من حدتها جائحة كوفيد-19 وتداعيات انفجار مرفأ بيروت، وذلك دون أن تتحرك الطبقة السياسية لوضع خطة لإنهاء الأزمة التي تعصف بالبلاد. وتستمر قيمة العملة المحلية في التراجع، مقابل ارتفاع معدلات التضخم، والنقص في المواد الأساسية الذي تشهده الأسواق.

الحرب والديون وعدم الاستقرار

وتفاقمت مشاكل الأسر اللبنانية، خاصة على الصعيد المالي، منذ سنة 2014، وكانت الظروف صعبة في عرسال التي حاصرتها حواجز الجيش اللبناني إثر اشتباكات عنيفة مع مقاتلين سوريين متطرفين. أدت هذه الأوضاع إلى تراجع نشاط علي مع إلقاء الحرب السورية بظلالها على بلدة عرسال الحدودية.

في خريف سنة 2019، ثار الشعب اللبناني ضد الطبقة السياسية التي كان قادتها يتشبثون بالسلطة في الغالب منذ سنوات الحرب (1975-1990). وبالنسبة للعديد من اللبنانيين، مثلت الانتفاضة لحظة أمل واتحاد، لكن كانت لعلي مصدر مأساة، حيث تسببت المظاهرات في المزيد من عدم الاستقرار، وظل طيلة 45 يومًا بلا عمل، وتراكمت ديونه.

حالة انتحار كل يومين ونصف

في هذا البلد المتعثر على جميع الأصعدة، يعتبر الانتحار من المحرمات دينيا واجتماعيًا، وتصبح هذه الظاهرة شائعة أكثر من أزمة إلى أخرى. يوضح أحد الأخصائيين النفسيين في بيروت، الذي رفض الكشف عن هويته، أن "المحرمات الدينية تلقي بظلالها على هذا الموضوع المسكوت عنه في مجتمعنا متعدد الأديان، حيث تفرض الطوائف أحكاما على قوانين الأحوال الشخصية".

ذكرت الصحيفة أنه في صيف 2020، أطلق رجل يبلغ من العمر 61 عامًا اسمه علي الحق النار على رأسه، وسط شارع في حي تجاري في بيروت. وبعد ساعات قليلة، قام حشد صغير من المجهولين بتكريمه. وخلال شهر نيسان/ أبريل 2020، توفي لاجئ سوري يدعى باسم حلاق متأثرا بجراحه، بعد أن أضرم النار في نفسه في الشارع في سهل البقاع.

تسجل حالات الانتحار بشكل بارز بين صفوف الرجال، وغالبا ما يشار إليها على أنها "حالات انتحار اقتصادي"، وهي تعد من انعكاسات إخفاقات الدولة على جميع المقاييس. وحسب سامي ريشا، رئيس الجمعية اللبنانية للطب النفسي: "لا يوجد سبب واحد يمكن أن يدفع المرء إلى الانتحار".

وفقًا لتقديرات تستند إلى أرقام جمعتها الشرطة ما بين 2008 و2018، ينتحر شخص واحد كل يومين ونصف في لبنان، وعادة ما يتم التكتم عن حالات الانتحار؛ لأن الأسرة تخشى أن يرفض الكاهن أو الشيخ أداء شعائر الجنازة، لذلك لا يمكن تقديم تقديرات حقيقية لعدد حالات الانتحار في لبنان، بل مجرد استقراءات، وذلك حسب ما أوضحه الأخصائي النفسي. في المقابل، أكد رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى "أوتيل ديو دو فرانس" في بيروت ارتفاع حالات المصابين بالاكتئاب.

شاب في العشرين من العمر عُثر عليه مشنوقًا

حسب الدكتور سامي ريشا، فإن "اشتداد الأزمات في وقت وجيز" من أحد عوامل تفشي الاكتئاب في لبنان. وقد تسببت أزمة كورونا في تقلص الحياة الاجتماعية للبنانيين، وفقدان القدرة على التواصل مع عائلاتهم وأصدقائهم.

وذكرت الصحيفة أنه عُثر على شباب فلسطيني يدعى كريم القائم، البالغ من العمر 20 عامًا، مشنوقًا في زقاق في حي بالقرب من البحر في آذار/ مارس 2021. ومنذ الشتاء الماضي، كان يعمل في محطة وقود، حيث دفعته الأزمة الصحية والاقتصادية للبحث عن وظيفة جديدة بعد أن كان يعمل مدير مطعم لفترة طويلة، لاسيما بعد إغلاق المطاعم في ظل تفشي جائحة كورونا. كانت وظيفته الجديدة تكسبه أجرًا زهيدًا يعيل به أخويه، اللذين يتراوح عمرهما بين 9 و12 سنة.

عندما أغلقت الحانات والمطاعم أبوابها مع فرض تدابير الإغلاق، وجد كريم رفقة والده وأخيه الأكبر الذين يعملون في قطاع المطاعم أنفسهم عاطلين عن العمل في منزلهم بمخيم عين الحلوة، الذي يعد أكبر معقل للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وموطن حوالي 50 ألف فلسطيني طردوا من أراضيهم في سنة 1948.

كان كريم يطمح إلى الهجرة، لكن كان من المستحيل أن يحقق حلمه، باعتباره شابا فلسطينيا من لبنان، ما لم يدفع لمهرّب، ومن المستغرب أن كريم كان شخصا اجتماعيا ودودا قادرا على تحمل المسؤولية والمشاركة في مصاريف المنزل، لكن والده لاحظ في الفترة الأخيرة أنه بات منغلقا على نفسه وكئيبا.

"الغد مجهول"

نقلت الصحيفة عن والد كريم رياض القائم: "لقد شهدنا أزمات في لبنان، لكن هذه الأزمة لم يسبق لها مثيل". مع اندلاع الحرب اللبنانية، اضطر رياض وعائلته إلى مغادرة حيّهم في بيروت، بعد إحدى المذابح التي ارتكبها مسلحون مسيحيون بحق الفلسطينيين على وجه الخصوص. ويتابع رياض: "مع اليأس تختفي أحلام الشباب، والغد يصبح مجهولا".

تقول جدة كريم، زهرة قبلاوي، وهي تنظر إلى الكرسي البلاستيكي الذي كان حفيدها يضعه في الزقاق أمام بابها: "كان يشرب القهوة ويقضى بعض الوقت معها قبل الذهاب إلى العمل. وتضيف: "لا يمكنك معرفة ما إذا كان انتحارًا أم لا، فقد كان متفائلا رغم كل شيء، وعرف بشخصية محبوبة وجذابة لدى الفتيات". كما عبرت جدة كريم عن غضبها من "فتيات هذا العصر الماديات"، مشيرة إلى أن إحداهن كسرت قلب كريم.

وأكدت الصحيفة أن حادثة انتحار كريم القائم مرت تقريبا دون أن يلحظها أحد، وكأن مبادئ التعاطف والرحمة قد تبددت في لبنان من أهوال الصعوبات التي يواجهها اللبنانيون كل يوم، وبات كل همّ الشعب اللبناني الحصول على المنتجات الغذائية المدعمة.

وأوضحت الصحيفة أن الأزمة أدت بالتأكيد إلى توسيع هوة التفاوت الاجتماعي بشكل كبير، التي لطالما كانت موجودة دائمًا في هذا البلد الذي يزيد عدد سكانه على ستة ملايين نسمة. قبل سنة 2019، كان أكثر من ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر، بينما كانت وضعية الأغنياء والذين يتقاضون أجورهم بالعملات الأجنبية أفضل بكثير.

"شكل من أشكال الإفلاس الجماعي"

عندما يُسْأل أهالي عرسال أو صيدا عما إذا كانوا يعانون من صعوبات نفسية، فإنهم ينكرون ذلك بشدة. وقد رفضت عائلة أخرى أقدم أحد أفرادها على الانتحار في الفترة الأخيرة الاعتراف بذلك، ونفت معاناته من أي اضطرابات عقلية.

أوضح الأخصائي النفسي أنه "يصعب الحديث عن حالات الانتحار، ذلك أنها تمثل أحد مظاهر الإفلاس الجماعي؛ نحن نعيش في مجتمع من العلاقات والتضامن، وأسلوب حياتنا قائم على التماسك الاجتماعي، على عكس المجتمعات الفردية. نحن دولة صغيرة، ويعرف الناس بعضهم البعض. وإذا انتحر شخص فغالبا ما يقع توجيه اتهامات لعائلته بشأن التقصير في الاهتمام به".

وأشارت الصحيفة إلى أن رفض الحديث عن حالات الانتحار يعود إلى ربط المجتمع الاضطرابات النفسية بالجنون، إما بسبب العقلية السائدة، أو الجهل بطبيعة هذه الاضطرابات. ومع أنه يقع تخصيص جلسات توعية حول الصحة النفسية في المدارس منذ عدة سنوات، إلا أن الاضطرابات النفسية لا تزال تعتبر وصمة عار.
 
التعليقات (0)