مقالات مختارة

"وداوني بالتي كانت هي الداء"..!!

عبد اللطيف درباله
1300x600
1300x600

وصفة الحلول في مواجهة النزعة الفرديّة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد.. ورغبته في تنصيب نفسه سلطة عليا فوق كلّ السلطات.

كتبنا منذ فترة بأنّه ينبغي تمرير التحوير الوزاري بالقوّة كأمر واقع.. في مواجهة سياسة الأمر الواقع التي ينتهجها رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد..


وكتبنا بأنّ الامتناع عن تفعيل التحوير الوزاري الذي أجمع أغلب أساتذة القانون الدستوري.. (بمن فيهم من يعارض حكومة المشيشي.. ومن يعادي الأحزاب الداعمة لها).. بأنّه دستوري.. وبأنّه ليس من صلاحيّات ولا من سلطات رئيس الجمهوريّة الاعتراض عليه أو رفض أداء اليمين أو عدم نشر التسميات بالرائد الرسمي.. باعتبار أنّ الفصل 92 من الدستور منح رئيس الحكومة بمفرده سلطة إعفاء وتعيين وقبول استقالة الوزراء.. وجعل الحكومة تحت رقابة مجلس النواب بمفرده طبق الفصل 95 من الدستور.. ولم يمنح الدستور الرئيس حقّ الرقابة أو الاعتراض أو رفع الفيتو على تسمية الوزراء..


وكتبنا منذ فترة بأنّ السكوت على تصرّفات الرئيس قيس سعيّد سيشجّعه على المضيّ قدما بما هو أكثر في محاولات لن تنتهي ليقضم لنفسه سلطات أكبر في كلّ مرّة بتأويل مطّاطي للدستور.. وباستغلال غياب المحكمة الدستوريّة.. وبفرض سياسة الأمر الواقع على كلّ السلط الأخرى التي تتمسّك بالإجراءات البروتوكوليّة التي أقرّها الدستور مقابل تنصّل الرئيس منها.. وتعمّده خرق روح وجوهر وأحكام الدستور ذاته..

 

كما توقّعنا.. فإنّ ذلك التخاذل والرضوخ الضمني لمشيئة قيس سعيّد عبر تجميد تفعيل التحوير الوزاري.. شجّع هذا الأخير على المضيّ قدما إلى الأمام في خرقه للدستور ومحاولته الاستحواذ على كافّة السلط بين يديه وجعل نفسه فوق الجميع..


فقد عمد الرئيس سعيّد لاحقا إلى الخروج بتأويل غريب يقضي باستحالة تكوين المحكمة الدستوريّة لأنّ أجلها قد فات..!!


ليفسح بذلك الفرصة لنفسه باحتكار تأويل الدستور بمفرده وعلى مزاجه.. ولمنع المحكمة الدستوريّة من البتّ في النزاعات بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة طبق الفصل 101 من الدستور بما قد يوقف تجاوزاته لسلطاته.. ولعدم إعطاء خصومه السياسيّين الآليّة الدستوريّة لعزله من الرئاسة والتي تتطلّب إدانته من المحكمة الدستوريّة في حالة خرق جسيم للدستور طبق الفصل 88 من الدستور..


وعمد أيضا إلى إعلان نفسه مراقبا أعلى للسلطة التشريعيّة.. باعتباره مهامه في ختم القوانين هي سلطة أصليّة لا بروتوكوليّة حسب زعمه.. وتبيح له المصادقة على ما يقرّره مجلس النواب أو رفضه.. متجاوزا بذلك حتّى اختصاص الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين التي خصّها الدستور نفسه في أحكامه الانتقالية بالنظر والبتّ في مدى مشروعية مشاريع القوانين إلى حين تأسيس المحكمة الدستورية..


وعمد أيضا.. أخيرا وليس آخرا كما يظهر.. إلى إعلان نفسه بنفسه قائدا أعلى للقوّات المسلّحة العسكريّة والأمنيّة.. معتبرا بأنّ جميع قوّات الأمن الداخلي المدنيّة الحاملة للسلاح مثل الأمن والحرس والديوانة والسجون.. داخلة تحت سلطان سلطته وقيادته العليا.. وأنّه بذلك يملك حقّ التعيين في الوظائف العليا فيها..

لن يتوقّف الرئيس قيس سعيّد بالتأكيد عند ذلك.. فكلّما سكتت له الأطراف السياسيّة المقابلة.. وغرقوا في حالة الجمود السياسي والدستوري التي رماهم فيها.. كلّما تشجّع وتقدّم خطوة في تنفيذ قفزاته البهلوانيّة الدستوريّة.. وزادت شراهته في "أكل الدستور"..!!

 

اليوم.. فإنّ السكوت على كلّ ما يقترفه ويزعمه الرئيس قيس سعيّد.. سيشجّعه بدوره على محاولة التحكّم أيضا حتّى في قرارات المجلس الأعلى للقضاء مستقبلا.. مادام الدستور منحه مهاما بروتوكوليّة في إكساء بعض قراراته بالصيغة التنفيذيّة.. والحال أنّه يعتبر أنّ تلك المهام هي سلطات أصليّة تبيح له المصادقة أو الرفض.. بما يعني حسب منطق قيس سعيّد بأنّه سيمكنه لاحقا تجميد قرارات المجلس الأعلى للقضاء متى شاء ذلك.. وهو ما سيشكّل ضربة قاسمة لاستقلاليّة السلطة القضائيّة التي بدأت الجهود لترسيخها بعد الثورة..


وبعدها.. وبنفس المنطق.. سيضع قيس سعيّد أيضا يده على سائر الهيئات الدستوريّة.. وسائر التعيينات.. وعلى كلّ شيء..!!!

من مازال واهما.. فعليه أن يفيق من أوهامه ومن غفوته ومن سذاجته السياسيّة..

قيس سعيّد قرّر المضيّ قدما في الانفراد بالسلطة.. ونصّب نفسه وصيّا على الدستور.. وعلى الشعب.. واختطف الدستور رهينة.. معتبرا نفسه المؤتمن الوحيد عليه.. والفاهم الوحيد له.. وصاحب الحقّ الحصري في تفسيره.. والحارس الوحيد لأحكامه.. ومنصبّا نفسه بصفته "رئيس جمهوريّة" كسلطة فوق جميع السلط.. التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة.. وأعطى لنفسه بحسب تفسيره الانتهازي والمغلوط للدستور مفاتيح كلّ شيء..


وأظهر في كلماته ورسائله وتصرّفاته المختلفة.. مرّة بعد مرّة.. بأنّه مادام ختم ونشر القوانين والتسميات وأداء اليمين وإكساء سائر الأعمال والقرارات بالصيغة التنفيذيّة.. وضعها الدستور إجرائيّا وبروتوكوليّا بين يديه.. فإنّه سيكون الآمر والناهي.. وله حقّ المصادقة أو الرفض.. وبيده مصير كلّ شيء في البلاد.. معتبرا نفسه سلطة علويّة سامية و"طاهرة" فوق جميع السلطات..!!!


هكذا فإنّ الرئيس قيس سعيّد أعطى لنفسه عمليّا وواقعيّا نفس صلاحيّات وسلطات رؤساء الجمهوريّة السابقين في النظام الديكتاتوري قبل الثورة.. بورقيبة وبن عليّ.. حيث أنّه لا شيء يحدث في البلاد دون موافقة الرئيس.. ولا سلطة خارج سلطته الشخصيّة..!!

 

من يريد أن يقاوم هذه النزعة الفرديّة والاستبداديّة.. عليه أن يجد الحلول من خارج الصندوق.. أي أن يتعامل مع قيس سعيّد ليس من داخل صندوق الدستور شكلا.. وإنّما يتعامل معه من خلال روح ومقاصد وجوهر الدستور.. وبفهم كامل للزاوية التي يتعامل هو منها.. والتي تقوم على استغلال غياب المحكمة الدستوريّة وسوء تأويل وتطبيق الدستور على هواه.. ليفرض الأمر الواقع على الجميع..
إنّ الرئيس يفرض عليهم رأيه وقراره فقط لأنّهم وخلافا له يحاولون الانضباط بأحكام الدستور التي لا ينضبط هو لها..!!


ولأنّهم مع الاقرار بخطأ الرئيس سعيّد وتعسّفه.. فإنّهم يقفون عند حدود التقيّد الشكلي بنصّ الدستور والحال أنّه يدوسه أصلا بأقدامه..!!!

قلنا سابقا.. ونكرّر.. أنّه يجب الوعي والعمل على ضرورة المرور بالقوّة في مقاومة النزعة الاستبداديّة التي يسعى رئيس الجمهوريّة الحالي قيس سعيّد لفرضها على الجميع.. محوّلا النظام البرلماني إلى نظام رئاسوي مطلق.. دون انتهاج الطريق الشرعي لتغيير النظام السياسي القائم اليوم بالوسائل القانونيّة.. ودون تنقيح الدستور.. ودون استفتاء الشعب مباشرة أو عبر مصادقة نوابه المنتخبين من قبله.. هؤلاء النواب المنتخبين مثلهم مثل الرئيس باعتبارهم ممثّلين بدورهم للشعب.. ومكرّسا بداية حكم فرديّ يدور كلّه حول سلطته الشخصيّة المطلقة.. وحول ذاته.. كما يتوهّم وكما يتمنّى وكما يسعى.. بزعم أنّه الوطني والصادق والأمين والطاهر والشريف والنزيه الوحيد في تونس.. وحده لا مثيل له..!!!


إنّ السكوت على مثل هذا الانحراف الجسيم والخطير بالدستور هو خيانة للثورة.. وهو خرق للنظام الديمقراطي الجديد الذي أرسته الثورة.. وهو هدم لأسس الديمقراطيّة التي تقوم أصلا على الفصل بين السلط التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة.. وعلى عدم هيمنة أيّ سلطة منها على سائر السلط الأخرى..

فإن كان من في مواجهة قيس سعيّد من سائر السلط والقوى والشخصيّات السياسيّة الفاعلة عاجزين عن إدراك جوهر هذا الإشكال.. واستيعاب درجة الخطر.. وكانوا فاشلين في التشخيص السليم للحالة ومعرفة الدواء اللاّزم لعلاجها.. فإنّهم سيسبّبون بمواقفهم الرخوة والمتذبذبة إنتكاسة خطيرة في مسيرة الحريّة والديمقراطيّة والقطع مع الحكم الفردي والاستبدادي في تونس..


وسيرجعنا تعثّرهم وتذبذبهم ليس حتّى إلى نظام الحزب الواحد.. باعتبار قيس سعيّد لا يؤمن أصلا بالأحزاب.. وإنّما سيرمينا في نظام الحاكم الوحيد والواحد والأوحد..


مادام الرئيس قيس سعيّد يحلو له ذكر أبيات الشعر ومرجعيّات الأدب والكتب.. حتّى في غير موضعها.. وخارج أطرها.. والتعسّف في إسقاطها على ما لا يطابقها.. إلى الدرجة التي استحضر فيها عنوان كتاب "التوابع والزوابع" في رسالته لرئيس مجلس نواب الشعب لردّ القانون المتعلّق بالمحكمة الدستوريّة.. فلعلّه وقياسا على أسلوبه يكون من المفيد تذكير الفاعلين السياسيّن والمدافعين عن عدم عودة البلاد للحكم الفردي بمنهج بيت شعر أبو نواس الذي يقول فيه: "وداوني بالتي كانت هي الداء"..


ولو في غير موضوعه وموضعه.. سيرا على سنّة قيس سعيّد..

"وداوني بالتي كانت هي الداء" أي باستعمال نفس سلاح الرئيس سعيّد.. بإقرار حقيقة غياب المحكمة الدستوريّة وفرض سياسة الأمر الواقع في تأويل الدستور وتنفيذ سياسته.. بأن يفرضوا هم أيضا سياسة الأمر الواقع على الرئيس سعيّد بدورهم.. وأن يقوموا بتأويل الدستور في موضعه الصحيح دون الالتفات لرأيه في ذلك.. أعجبه أم لم يعجبه.. وأن يطبّقوا قواعد الدستور بطريقة عمليّة.. ولو دون احترام الشكليّات والبروتوكولات الدستوريّة التي يمتنع هو عن تنفيذها.. وذلك وفق نظريّة "الإجراء المستحيل" التي يقرّها القانون والفقه وفقه القضاء..


فلا حاجة عند اللّزوم لأداء اليمين أو لختم رئيس الجمهوريّة للقرارات والقوانين أو انتظار تفضّله بنشرها بالرائد الرسمي أو غير ذلك من مهامه البروتوكوليّة المقيّدة طبق الدستور.. والتي يستعملها هو قصدا وعن سوء نيّة لتعطيل ما لا يريد..


عليهم أن يستغلّوا بدورهم غياب المحكمة الدستوريّة كما يستغلّه هو.. لحصر الرئيس في الزاوية تماما كما يحاول هو أن يفعل مع الجميع..

خلاصة القول.. أنّه ما دام رئيس الجمهوريّة يفعل ما يريد مستندا إلى عدم وجود رادع قانوني أو دستوري له في غياب المحكمة الدستوريّة..


فإنّ على الحكومة ورئيسها ومجلس نواب الشعب وكلّ السلط الشرعيّة في البلاد أن يتعاملوا مع الرئيس سعيّد بدورهم بنفس منطقه وأسلوبه وتكتيكه.. فيفعلون ما يجب فعله دستورا وقانونا دون التوقّف على موافقته أو على الإجراءات الشكليّة التي قد يرفضها هو.. مادام لا توجد محكمة دستوريّة تردعه قانونا وتفرض عليه التقيّد بالدستور.. ومادام لا يوجد بالتالي وأيضا.. واقعا وقانونا.. بالنسبة لهم بدورهم.. ما يوقفهم عن المضيّ في تنفيذ قراراتهم على أرض الواقع شاء قيس سعيّد أم أبى.. أتمّ واجباته الدستوريّة الاجرائيّة البرتوكوليّة أم امتنع عنها خارج إطار الدستور والقانون..

إذا كان قيس سعيّد يستفيد من غياب المحكمة الدستوريّة.. لمدّ رجليه خارج حدوده وبسط هيمنته..
فيمكن للقوى المضادّة لهيمنته أن تستغلّ نفس غياب المحكمة الدستوريّة لوقفه عند حدوده.. ومحاصرة محاولاته توسيع سلطاته خارج الدستور..

فكما هو معروف في الطبّ وأمور العلاج والدواء.. أحيانا يكون الدواء من نفس جنس الداء.. ويكون التلقيح من مركّب الفيروس نفسه.. ويكون الترياق مشتقّا من نفس السمّ الذي يقاومه..


وإنّ نفس قواعد الطبّ تصلح أيضا في علاج ودواء الأمراض والفيروسات والأوبئة السياسيّة..!!

 

الصفحة الشخصية للكاتب/ فيسبوك

 
0
التعليقات (0)