مقالات مختارة

في توصيف النظام السياسي العراقي

يحيى الكبيسي
1300x600
1300x600

إن التوصيف الأصدق، والأكثر دقة، للنظام السياسي الذي يحكم العراق اليوم، هو أنه نظام كليبتوقراطي ـ زبائني بامتياز. فالكليبتوقراطية، وتترجم عادة بـ«حكم اللصوص» تمثل المستوى الأفقي الذي يشكل هرم هذا النظام السياسي، وهي تتيح للطبقة الحاكمة استغلال هيمنتها على سطات الدولة، وأجهزتها، ومواردها، لتوسيع مصالحها الشخصية، الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تراكم ثرواتها الشخصية، وسلطاتها السياسية. ولا يقتصر هذا النظام على الدول الديكتاتورية أو الشمولية، بل يظهر أيضا في بعض الأنظمة الديمقراطية ذات الطبيعة الأوليغارشية التي تشكل فيها مجموعة صغيرة من الأفراد الطبقة الحاكمة.


أما الزبائنية، التي تشكل المستوى العمودي للنظام السياسي العراقي، فتعرّف على أنها علاقة مقايضة (تقوم على المصالح المتبادلة) بين عراب (Pattern) وزبون/ مشتري خدمة ( Client ) يستخدم فيها العراب ذو المكانة السوسيو ـ اقتصادية، نفوذه وموارده لتوفير الحماية أو المصالح، أو كليهما، لمشتري خدمة ذي مكانة أدنى، والذي يقوم بالمقابل بتقديم الدعم والمساعدة، بما في ذلك الخدمات الشخصية إلى العراب.

في الأسبوع الماضي صوت مجلس النواب العراقي على قانون الموازنة العامة الاتحادية لعام 2021، وقد تمت إضافة نص إلى قانون الموازنة الذي اقترحته وزارة المالية/ مجلس الوزراء، وهي المادة 14/ رابعا، والذي نص على أن: «لوزارة التربية دعوة القطاعين العام والخاص داخل العراق لتنفيذ الكتب المدرسية… مع إلغاء قرار رقم 790 لسنة 2018» ولم تلتفت الغالبية العظمى من أعضاء مجلس النواب (أجزم أنهم لا يقلون عن 96٪) الذين صوتوا على الموازنة إلى ذلك ولم يسألوا عن مضمون القرار رقم 790 لسنة 2018! لكنهم صوتوا على المادة دون معرفة محتواها! بدليل أنه لا وجود لهذا القرار من الأصل، فالإلغاء هنا يتعلق بالقرار 790 لسنة 2017 وليس لسنة 2018!

 

وواضح أن المقصود كان منع أي نائب من تقصي حقيقة هذا القرار (مع أن أحدا لم يكلف نفسه عناء البحث أساسا). ولم يكن بالإمكان تمرير هكذا مادة في قانون الموازنة لولا تواطؤ طرفين محددين؛ هما اللجنة المالية في مجلس النواب من جهة، ورئاسة مجلس النواب من جهة أخرى! كما أننا هنا أمام تعارض مصالح، وخيانة أمانة، وتدليس صريح، لأن هذا القرار يتعلق بمصلحة شخص بعينه، وهو عضو في مجلس النواب، وعضو في اللجنة المالية!

ولا يمكن فهم التواطؤ الذي حكم الواقعة أعلاه، إلا من خلال مراجعة التعديلات التي أدخلها مجلس النواب على مشروع القانون والذي قدمته وزارة المالية/ مجلس الوزراء، وستكشف هذه المراجعة، بشكل واضح، أن ما حدث يصب في مصلحة الفاعلين السياسيين المهيمنين على القرار داخل مجل النواب، لتعزيز استثمار موارد الموازنة، وتوسيع مصالحهم الشخصية والسياسية على حساب المال العام! وبالتالي لا يمكن فهم التصويت على قرار لا أحد يعلم بمحتواه، إلا على أنه مقايضة متفق عليها، لضمان حصول كل منهم على «حصته» في الموازنة دون مناكفة! ويمكن بقليل من الجهد، المقارنة بين مشروع القانون الذي أرسلته وزارة المالية/ مجلس الوزراء، والقانون الذي تم التصويت عليه، لمعرفة «المستثمر» السياسي الذي يقف خلف كل مادة من المواد التي تم تعديلها أو إضافتها!

فزيادة تخصيصات وزارة معينة لا علاقة له بالمنظور الاستراتيجي للتنمية المستدامة، لا سمح الله، بل له علاقة بالمستثمر السياسي الذي يدير تلك الوزارة لمصلحته الشخصية! وزيادة التخصيصات المتعلقة بالمحافظات، لا علاقة لها باللامركزية وخرافاتها، معاذ الله، بل لها علاقة بالمستثمرين السياسيين الذين حولوا هذه المحافظات لإقطاعيات خاصة بهم يستثمرونها كما يشاؤون.


مثال ذلك أيضا، إضافة مادة إلى قانون الموازنة لم يكن لها وجود في مشروع القانون المرسل من وزارة المالية/ مجلس الوزراء تنص على أن: «يُخول المحافظون ورئيس صندوق إعمار المدن المحررة والمتضررة من العمليات الإرهابية صلاحية التعاقد المباشر لغاية 5 مليار دينار للمشروع الواحد استثناء من أساليب التعاقد المنصوص عليها في تعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم 2 لسنة 2014» (المادة 2/ 4/ ج).

 

ويمكن بكل سلاسة معرفة «المستثمر السياسي» الذي يقف خلف وضع هذه المادة، وهو المسيطر على صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية (هذا هو اسمه الرسمي!)، ويسيطر على محافظتين من المحافظات الخمس المرتبطة بعمل هذا الصندوق، وهو ما دفع محافظ محافظة ثالثة من هذه المحافظات الخمسة إلى المسارعة لإعلان «ولائه» لهذا المستثمر السياسي، بعد تمرير هذه المادة مباشرة لضمان «حصته» من تطبيقها!

ليس الأمر هنا مجرد «فساد مقنن» متواطأٌ عليه أفقيا، في سياق نظام كليبتوقراطي فقط، بل تكريس لنظام زبائني عمودي لا يقف عند حدود الاستثمار المالي الشخصي وحسب، بل يستخدمه أيضا للحصول على الدعم السياسي من جهة ثانية، ويستخدمه مقابل الحصول على الأصوات الانتخابية من جهة ثالثة. فالعرابون إنما يقايضون هنا الخدمات الخاصة التي يقدمونها على شكل مقاولات وعقود مقابل الحصول على الدعم الانتخابي بعيدا عن أي رقابة! وبالتالي لا بد من تجزئة المشاريع لتوزيعها على أكبر عدد ممكن من المقاولين والمتعاقدين، بشرط أن يكون لهؤلاء القدرة على التأثير فيما يتعلق بالانتخابات، أي قدرتهم على التأثير، والتحشيد لضمان أكبر عدد من المصوتين في سياق انتخابات قريبة قادمة، سواء عبر مقابل مادي، أو خدمات (محولة كهربائية أو تبليط، أو وعود بامتيازات على رأسها التوظيف في القطاع العام، فهؤلاء المقاولون والمتعاقدون يشكلون جزءا مركزيا في الهيكل البنيوي للزبائنية!

وفي سياق هكذا نظام سياسي، لا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية أو إصلاح، سوى على أنهما ثرثرة للضحك على الجمهور لا طائل منها!

القدس العربي

0
التعليقات (0)