هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "العالم العربي في ألبومات تان تان"
المؤلف: لوي بلين
المترجم: سعود المولى
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021
بين عامي 1930 و1983 أصدر رسام الكاريكاتير البلجيكي جورج بروسبير ريمي، الذي اختار لنفسه اسما فنيا هو "هيرجيه"، 24 ألبوما من القصص المصورة بطلها المتخيّل الصحفي والمغامر الكشّاف "تان تان". سبعة من هذه الألبومات تدور أحداثها في الشرق (آسيا والعالم العربي)، وعشرة منها تدور أحداثها في أوروبا، وأربعة في أمريكا، وواحد في أفريقيا جنوب الصحراء، وواحد في جزر الأنتيل، وآخر على سطح القمر.
هذه الألبومات المصورة وموضوعاتها تحكي الكثير عن الثقافة الأوروبية السائدة في زمن صدروها، والأهم أنها تكشف عن العين التي يرى بها الأوروبي الآخر "الغريب" عنه، سيما العربي، بما هي رؤية متخيّلة غير واقعية في مجملها، استشراقية وكولينيالية. لقد كان تان تان "شاهدا على عصره، وساهم أيضا في صنعه" وترجمت مغامراته إلى حوالي مئة لغة وتجاوزت مبيعاته الـ220 مليون نسخة.
لوي بلين صاحب هذا الكتاب، الدبلوماسي الفرنسي والباحث الأكاديمي المهتم بالعالم العربي، يوضح في مقدمة الطبعة العربية أن انجذاب الكثير من الأوروبيين نحو العالم العربي "في زمن انخفاض قيمة الثقافة العربية في الغرب المعاصر"، جاء في الحقيقة من قراءتهم لألبومات تان تان في طفولتهم. لقد أصبحت هذه القصص المصورة جزءا من الثقافة الشعبية، وحتى أنها ساهمت في تشكيل الهوية الوطنية. كما أن صورة العالم العربي التي تنقلها تلخص أحكام الغربيين المسبقة حياله. لكن العربي الذي يقرأ هذه القصص لا يجد فيها ربما أكثر من "تسلية" تكشف له عن رؤية الغربي ونظرته التي كوّنها عنه، بحسب بلين.
الأنانية البرجوازية
يقدم بلين قراءة في شخصية ومواقف هيرجيه، التي عكسهما بشكل كبير على بطله المتخيّل تان تان الذي كان يقول إنه هو نفسه، ويحاول شرح السياق التاريخي الثقافي والسياسي الذي نمت فيه هاتان الشخصيتان (هيرجيه وتان تان). يقول بلين إن غيابا للوعي السياسي طبع توجهات ومواقف هيرجيه، قد يكون ساهم فيه أصوله الاجتماعية البرجوازية، ما جعله "ينغلق في الأنانية الخاصة بأبناء زمنه من تيارات اليمين الأوروبي. وقاده عدم اهتمامه بالديمقراطية وفلسفته الفردانية إلى قبول العالم كما هو، من دون إرادة في تغييره... كان يرفض عمدا كل عملية توعية سياسية بدافع الشكوكية وليس لأي دافع نضالي، وحين صار لا أدريا كانت حكمته المفضلة القول المأثور عن نيتشة: كل قناعة هي سجن". ولأن هيرجيه صاحب نزعة إنسانية "كان يشعر بالتضامن مع المستغلين والمقهورين، لكنه لا يناضل في سبيلهم، وهذا ما يضع الحدود لالتزامه النضالي".
أما تان تان فصوّره هيرجيه على أنه شاب لطيف وشجاع عمره تسعة عشر عاما، محبا للضعفاء، "مستعد دائما للدفاع عن أي ضحية من ضحايا البؤس أو الظلم أو العنف، بغض النظر عن أصله وفصله... لكنه لم يكن ليقاتل في سبيل سعادة جميع المستضعفين ولمصلحة قضيتهم... لم يكن يحمل أخلاقيات تبجيل المصلحة العامة والجماعية، ناهيك بالسياسية. كان يلاحق اللصوص والعصابات وينقذ القريبين منه، لكنه لا يهتم لقضايا النزاعات التي كانت في طريقه وأمام ناظريه".
وريث لورنس العرب
تجري أحداث ثلاثة ألبومات من مغامرات تان تان جزئيا في شبه الجزيرة العربية؛ "تان تان وسجائر الفرعون"، "تان تان في أرض الذهب الأسود"، "تان تان وقروش البحر الأحمر". وألبوم رابع في المغرب "تان تان والمخالب الذهبية"، بينما يقوم تان تان أيضا بجولات قصيرة في مصر وفي فلسطين، ويظهر بطلان عربيان من مغامرات سابقة في الألبوم الأخير لهيرجيه الذي لم يكمله قبل وفاته، وإن كانا هذه المرة يظهران في بلجيكا وليس في المنطقة العربية.
يصف بلين العالم العربي الخاص بتان تان بـ "المساحة الغرائبية للعبة الأشرار الأوروبيين الباحثين عن المال، أو لبعض الأبطال الطامحين لمواجهة تحديات وجودية، ويتألف من البحر الأحمر ومن مدن وصحاري تسيطر فيها الرمال والسراب". وفي هذا العالم المتخيّل تظهر الحاجة إلى "بطل أسطوري، فيظهر تان تان في ملحمته العربية بصورة الوريث الجدير للورنس العرب (توماس إدوارد لونس، الضابط البريطاني الذي اشتهر بدوره في الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية)، نظيره البلجيكي نوعا ما".
يشير بلين إلى أوجه الشبه بين شخصيتي هيرجيه ـ تان تان ولورنس، ويرى أن تان تان ربما لم تكن تقوده مغامراته إلى الجزيرة العربية لو أن أسطورة لورنس لم تؤثر في هيرجيه. ويقول إنه من حيث الشكل فإن لورنس وتان تان التزما باللباس البدوي، وأظهرا حماسا لركوب الدراجة النارية والطائرة. ومن حيث المضمون فقد كان لورنس مثل هيرجيه من أصول عائلية غامضة، ويشعر بعدم يقين بخصوص هويته ما دفعه إلى البحث عنها في الشرق. لذلك قد يكون انخراط تان تان في الجيش المكي في "سجائر الفرعون" مستوحى من معركة لورنس إلى جانب العرب.
ويضيف: لا يتوقف تأثير حكاية لورنس البطولية في هيرجيه عند شخصيته فحسب، إنما يطال نظرته إلى الشرق. فرهاب بلاد الشام عند هيرجيه وانجذابه إلى بدو الصحراء هو تقليد للإنجليز... هي تفاصيل تصدر في الحقيقة من السرديات البريطانية عن جزيرة العرب... التي جعلت من المشرقيين عربا مضمحلين، ومن البدو عربا حقيقيين أصليين أنقياء ونبلاء... كان البريطانيون يحتقرون الشوام، المهجنين بالثقافة الفرنسية، على عكس البدو الميالين إلى قبول سيطرتهم. لقد شارك هيرجيه هذه الرؤية النرجسية عن الشرق العربي حين أخذه بما يراه هو فيه لا بما هو حقيقته.
العنصرية الكامنة
ترجمت ألبومات تان تان إلى العربية منذ عام 1942 عن طريق دار المعارف المصرية، لكن الدار لم تستطع إقناع هيرجيه بتصحيح الكثير من المقاطع المسيئة للعرب الواردة في هذه الألبومات، رغم قبوله لمراجعة الأخطاء في ألبومات أخرى بطلب من ناشره البريطاني، مثلا، الذي أراد أن تكون المغامرة الاسكتلندية في ألبوم "الجزيرة السوداء" مطابقة أكثر للواقع. كما راجع مغامرة "تان تان في أرض الذهب الأسود" كي يرضي الأوساط المؤيدة لإسرائيل، ومغامرة" قروش البحر الأحمر" كي لا يصدم السود.
يقول بلين إن الطريقة التي وضع فيها هيرجيه العرب في ألبوماته "تبرز أسلوب اشتغال العنصرية الكامنة عند الأوروبيين حيال الشرق، أي تلك الرؤية الإجمالية التي تحط من قدر العربي المجهول، لكنها لا تلغي في الوقت نفسه التعاطف مع عربي نقيم معه علاقات". ثمة جهل بالعالم العربي وعمى بصيرة، بحسب بلين، جعل المعاونين الكثر لهيرجيه في عمله والقراء الذين كانوا يلتقطون أصغر نقيصة، على حد سواء، لا يقولون شيئا عن الإساءات الموجهة للعرب، كانوا يصدقون "أفظع الحماقات عنهم دون أدنى اعتراض".
ببساطة هيرجية "لم يدخل العرب في مرجعاته المعادية للعنصرية. العرب هم المتروكون خارج التخفيف التدريجي لأحكامه المسبقة". في "سجائر الفرعون" يقدم هيرجيه بدويا يعتبر قطعة الصابون من الطعام، رغم أن الشرق الأوسط عرف الصابون وأنتجه من قديم الزمان. والطريقة التي يرسم بها عربه تكشف عن بقايا عداء للسامية، إذ يضفي عليهم في كثير من الأحيان أنفا طويلة أو معقوفة، كما يطلق عليهم أسماء مركبة مسيئة مثل "عبد الدراخما" في ألبوم "المخالب الذهبية" مستبدلا اسم العملة بأسماء الله الحسنى. ثم يجعل تاجر الرقيق في "قروش البحر الأحمر" يحلف باسم "لحية الرسول"، وكأن المسلمين يفعلون ذلك، ويستخدم المصطلحات الدينية بشكل عشوائي وفي غير سياقها الصحيح مثل "الله أكبر" التي عدّلها المترجم أحيانا إلى "يحفظك الله". عدا ذلك فهو يسخر في إحدى الألبومات من الصلاة فيجعل أحد أبطال قصصه يركل مؤخرة أحد المصلين الساجدين على الأرض.
ورغم أن هيرجيه استعان في ألبومه "زهرة اللوتس الزرقاء" بصديقه تشانغ تشونغ جن لوضع كتابات صحيحة باللغة الصينية، فإنه لم يفعل ذلك أبدا في ما يخص الكتابة العربية. ولا نجد في مغامرات تان تان لافتات شوارع باللغة العربية، بينما تجري الأحداث في المغرب، وفي فلسطين تظهر اللافتات بالعبرية، وكانت تستخدم أحرف العربية بشكل عشوائي لا معنى له، ولم يجد أحد من قرائه الغربيين في ذلك أي غضاضة، فالعربية بالنسبة لهم مجرد "رطانة وبربرة غير مفهومة". إنه "خليط مخز" كما يقول بلين، إلى الحد الذي يسمح لنا باتهام هيرجيه بالمساهمة في نشر عنصرية العداء للعرب التي تشكل واحدة من سمات الثقافة الأوروبية في عصره.
يتساءل بلين: "هل كانت العنصرية غير واضحة في ذهنه؟". ويجيب: "خلال فترة شيخوخته جمع هيرجيه أعمال فن أفريقية وهندية وصينية، ما يدل على انفتاح ذهنه. لكن هذا الانفتاح لم يشمل الفن الإسلامي والحضارة الإسلامية بالتالي. هنا أيضا نراه يعبر تماما عن عمى البصيرة الثقافية الأوروبية حيال هذه الحضارة".
يرى بلين أن ثمة مفارقة تحكم علاقة هيرجيه بالعالم العربي، وهي أننا أمام كاتب لا يجذبه العالم العربي لكنه يجعل منه مسرحا رئيسيا لمغامرات بطله. وكونه ، كأوروبي، يحترم الصينيين فإن ذلك لا يغير كثيرا في ثقافته الأوروبية، ما دامت بعيدة من ثقافته. لكن احترام ثقافة العرب يعني على العكس من ذلك المس بالنرجسية الأوروبية، التي بنت نفسها من خلال الصلة بالعالم العربي.
يتابع بلين: لذلك يصعب على الأوروبي الاعتراف بأنه عنصري ضد العرب. فالاعتراف بإنسانية العرب يعني التعرض لعقدة التفوق الأوروبية التي تشكل أساس الذهنية الكولينيالية وذهنية مثيلاتها، خصوصا الإغرابية. إن ألبومات هيرجيه لم تقل عن الشرق بقدر ما كانت تقول عن الثقافة الغربية ورؤيتها للشرق المتوهم." لقد قدّر لتان تان أن يطوف العالم.. لكي يفهم أنه لا بد من التقدم صوب الآخر كي نفهم ذواتنا... هذه هي الرسالة التي قدمتها لنا مغامرات تان تان، وهذه هي أيضا وظيفة الشرق عند الغربيين" بحسب بلين.