مقالات مختارة

ترامب ومارادونا… كل إناء بما فيه ينضح

توفيق رباحي
1300x600
1300x600

قيل عن بشار الأسد: الأسد أو نحرق البلد. وقيل عن العقيد معمر القذافي: يحكمكم أو يقتلكم. وقيل عن حسني مبارك: هو أو الطوفان. وقيل عن بوتفليقة: سيبقى يحكمكم ولو من القبر. في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قليل من كلٍّ من هؤلاء.


إلا أنه لن يقتل أحدًا ولن يحرق شيئا ولن يجلب الطوفان. فقط لأنه في دولة قانون ومؤسسات. لكنه مُصرٌّ عن وعي وقناعة على أن يتركها «جيفة» لخليفته جو بايدن.


في الطريقة التي يدير بها ترامب أمريكا ما بعد الثلاثاء 3 تشرين الثاني (نوفمبر) قليل من السياسة، وكثير من «النفسي».


«النفسي» هو الغالب والأهم والأشدّ تأثيرا، لأن أوراق السياسة انتهت أصلا وسهلة في المجمل. وإلا كيف يأمر ترامب ببدء إجراءات نقل السلطة، على مضض وبعد جهود مضنية من مساعديه وحلفائه، دون أن يمتلك شجاعة القول إنه خسر الانتخابات.


الخسارة ليست مشكلة عند الأسوياء. هي لحظة، أو محطة لها ما بعدها.


لكن عند رجل مسكون بالغرور وجنون العظمة، تصبح الخسارة مصيبتين: مصيبة الخسارة ومصيبة الاعتراف بها، للنفس أولا وللناس ثانيا.


ترامب مقتنع بأنه خسر الانتخابات بلا رجعة.


ومقتنع بأن التزوير الذي يدّعي أنه حرمه من الفوز، غير موجود. وإن وُجد فبمستوى هامشي جدا لا يؤثر إطلاقا في النتيجة النهائية.


واستطرادا هو مقتنع بأنه لن يستطيع منع الرئيس المنتخب بايدن من تسلم الرئاسة.


وطالما لن يستطيع تغيير النتيجة وحرمان بايدن من الفوز، ها هو يعمل كل ما في وسعه وينفق الأموال ليحرمه من بهجة الفوز.


حرمان بايدن من الفرحة تغذيه رغبة عارمة في منحه رئاسة محفوفة بالشكوك والثقة المهزوزة أمام الرأي العام المحلي والدولي.


ويريد منحه رئاسة محفوفة بالألغام والمصائب المحلية والدولية، لكي يضعفه طيلة السنوات الأربع المقبلة.


في ما يفعل ترامب مساس بأمن أمريكا وحتى العالم. بيد أن هذا لا يزعج ترامب ولا يحرك له جفنا.


لو فعل كل رئيس أمريكي خسر الانتخابات ما يفعل ترامب بأمريكا منذ الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) لكانت اليوم في وضع آخر تماما، ولما كان في قائمة رؤسائها واحد اسمه دونالد جون ترامب.
تمسكه بالمنصب لا يختلف عن تمسك أي طاغية آخر في إفريقيا والشرق الأوسط.


وتصرفاته منذ ليلة الانتخابات تحمل كل مواصفات الانقلاب. الانقلابات أنواع، هناك انقلاب للوصول إلى الحكم، وهناك انقلاب للبقاء فيه. انقلاب ترامب ضمن الفئة الثانية.


لو أنه في دولة أخرى بلا قوانين وبلا مؤسسات وبلا صحافة، لأخرج الدبابات وناقلات الجند تسحل خصومه في الشوارع.


هنا الفرق بينه وبين الأسد والقذافي وبوتفليقة ومبارك. بالأحرى هو الفرق بين بلده وبلدانهم.

تجربة ترامب فريدة وستُسيل حبرا كثيرا.


خروجه من الرئاسة سيُطلق يديه ولسانه. سيصبح مزعجا أكثر وفالتا أكثر ما لم تُسيطر عليه المؤسسات بصرامة القوانين وبما سيترك وراءه من أخطاء وفضائح بعضها يقرّبه من بوابات السجون.


أما الدرس الذي على أمريكا أن تتعلمه، فأن تفكر في فرض اختبارات نفسية على المرشحين لرئاستها مستقبلا.


في وداع دييغو تشي غيفارا!


ليس من المبالغة وصف الراحل دييغو مارادونا بأنه تشي غيفارا الكرة. تمرّدَ الرجل مبكرا على مافيا الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) وطغيانه، مثلما تمرّد ابن بلده إرنيستو تشي غيفارا على الإمبريالية العالمية قبله بعشرات السنين.


اختزال مارادونا في الكرة وبعض مشاكساتها مثل الهدف «التاريخي» ضد إنكلترا في المكسيك سنة 1986، ثم في إدمان المخدرات، فيه ظلم للرجل وجهل بحياته الثملة بالأفراح والمتعة والمثخنة بالآلام.


أدرك مارادونا منذ بداية مسيرته الكروية أنه، وغيره من اللاعبين، مجرد دجاجات تبيض ذهبا لتماسيح يتخذون من المكاتب الفارهة في العواصم العالمية مقرات لهم، تحت عنوان كبير: فيفا. فحاول التمرد على ذلك الواقع حتى وهو مبتدئ في الأرجنتين.


رفض استغلال الفيفا بماكينته المكوّنة من رجال أعمال وشركات وأفراد من معلنين ووكلاء لاعبين. كانوا جميعا يجنون أموالا طائلة من عرق اللاعبين ومعاناتهم، بينما يحسد العالم اللاعبين ويعتقد أنهم غارقون في ثراء فاحش لا يستحقونه (مقابل الملايين التي يجنيها نجوم الكرة كل سنة، تجني ماكينة الفيفا ومافياها أضعافا).

 

احتج مارادونا، ومعه الفرنسي إيريك كانتونا، على ممارسات الأندية والفيفا قبل عقود من انكشاف قصص الفساد والرشاوى في أعلى هرمه. فكافأته الماكينة بتحطيمه من خلال فضائح (له نصيب من المسؤولية فيها) الكوكايين والجنس والحياة الماجنة.


اليوم وفي الماضي وفي المستقبل، يتعاطى كثير من نجوم الكرة الأوروبيين والعالميين كل أنواع المخدرات والكحول، ويستغلون الفتيات اليافعات بين إغراء واغتصاب. ولا يحتفلون بفوز أو لقب إلا في سهرات ماجنة تغرق في أنواع الكحول والمخدرات والجنس. لكن ماكينة الفيفا لا تحطمهم، لأنهم يبيضون ذهبا وطيّعون مستسلمون، على خلاف مارادونا وكانتونا.

 

كان مارادونا نقابيا في وقت مبكر دون أن يدري ذلك. في بداياته مع فريق أرخنتينا جونيور، وقد تزامنت مع ظهور التلفزيون الملوَّن، انتظر لاعبو الفريق مكافأة لشراء أجهزة تلفاز جديدة، لكن إدارة النادي تماطلت. ذهب دييغو، وكان في الثامنة عشرة، إلى رئيس النادي وهدده بمقاطعة المباريات ما لم يتسلم اللاعبون علاواتهم الموعودة.


كان يؤمن بأن اللاعبين هم النجوم الحقيقيون، وأنهم أهم من بيروقراطيي النوادي والفيفا، وأحق بالرعاية والأموال. قاتل طيلة حياته، وحتى بعد اعتزاله، من أجل معاملة منصفة للاعبين واحترام أكثر للموهوبين منهم.


صنع مارادونا مجده، لكن آخرين صنعوا أمجادهم على أكتافه الموجوعة.


أندوني غويكوتشيا، وسط دفاع أتليتيكو بلباو، دخل التاريخ لأنه حطم مارادونا رياضيا ونفسيا.


يقول الصحافي الرياضي في هيئة الإذاعة البريطانية، غويم بلييغ، إن غويكوتشيا يحتفظ لليوم في بيته بصندوق زجاجي يخبِّئ داخله بعناية الحذاء الذي مزَّق به كاحل مارادونا وكاد ينهي حياته الرياضية.


دفع مارادونا في تلك المباراة المشؤومة ثمن قومية باسكية جامحة وخارجة عن السيطرة. كان الباسكيون ناقمين على كل مَن يعتقدون أنه يعيق طموحاتهم، ولو في ملاعب الكرة.


يقول مارادونا للصحافي ذاته إنه «صاحب الفضل» في القوانين الحالية الصارمة حيال الاعتداءات المتعمدة أثناء المباريات، نظرا لما ناله من اعتداءات رافقته آلامها بقية العمر.


صنع مارادونا مجد الحكم التونسي علي بن ناصر. في 2015، بعد 29 سنة، من هدفه «التاريخي» ضد إنكلترا في المكسيك، زار مارادونا تونس وحلّ ضيفا على ابن ناصر الذي أدار المباراة المذكورة، عرفانا ربما أو فضولا.


لم تخلُ مباراة إنكلترا والأرجنتين تلك من شحناء السياسة والقومية أيضا، إذ جرت بعد زمن وجيز من حرب الفوكلاند بين البلدين، وانتهائها بهزيمة الأرجنتين. صمم مارادونا على الانتقام لبلاده فقررت «يد الله» الباقي.


من أجل كل هذا بكاه العالم ورثاه من عرفوه ومن لم يعرفوه.

 

(عن القدس العربي)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل