مقالات مختارة

حروب ترامب الأخيرة

عبدالحليم قنديل
1300x600
1300x600

بعد شهر من اليوم، تجري انتخابات الرئاسة الأمريكية في الثالث من نوفمبر المقبل، ومن دون مقدرة على الجزم بتكهن نهائي، صحيح أن غالب استطلاعات الرأي الأمريكية تشير إلى توقع بعينه، وتعطي جو بايدن الديمقراطي أرجحية على دونالد ترامب الجمهوري، وبفوارق تصل أحيانا إلى عشر نقاط، لكن هزيمة ترامب مع ذلك لا تبدو مؤكدة، ربما الجديد، أن ترامب نفسه، صار يتحدث عن احتمال هزيمته، بل يهدد بعدم تسليم الرئاسة إذا خسر فرصة تجديدها، وهذه سابقة مثيرة للسخرية في تاريخ انتخابات أمريكا.


وقد خاض المرشحان قبل أيام مناظرة رئاسية أولى، أدارها كريس والاس مذيع «فوكس نيوز» الذي لم يستطع السيطرة على النقاش الساخن، ولا وقف المقاطعات العشوائية من ترامب، ولا الحد من سيل السباب والشتائم الشخصية المباشرة، التي تورط فيها بايدن الأكثر تهذيبا، ووصف ترامب بأنه «جرو» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بينما ردد ترامب شتائمه المعتادة لبايدن، والإهانات الشهيرة بالغباء وتآكل الذاكرة، وهو ما تجاهله بايدن غالبا، ونجح في جرّ المنافسة الكلامية إلى مضامين أكثر جدية، بدت فيها حيويته وحضوره الذهني، وكلامه المحسوب بدقة تليق بقائد رئاسي، فيما بدا ترامب منتفخ الوجه كتلميذ بليد مشاغب، يستفز حتى مدير الحوار، ويكاد يبحث عن كرسي ليحطم به رأس غريمه، ويعجز عن تكوين جملة مفيدة في الوقت المخصص له، ويتحاشى الجواب عن الأسئلة الصعبة والمحرجة.


ورغم ما بدا من تفوق ظاهر لبايدن، فلا تزال في الجدول مناظرات مقبلة، قد لا تقلب الموازين الانتخابية بالضرورة. وقد لا يهم ترامب أن يتعجب منه الناس، فهو صاحب أرقام قياسية في شذوذ السلوك، وهو مقاول كذب بامتياز، ولا تعنيه قواعد السياسة ولا اعتبارات العلم، ويفتخر غالبا بجهله، وعلى طريقة نصحه لمواطنيه مرة بحقن «الكلور» للوقاية من الإصابة بعدوى كورونا، ولو فعلها حاكم في جمهورية موز، لصار سخرية للعالمين، لكن رئيس دولة عظمى يفلت دائما بأكاذيبه، بل يسخر من اتهامات موثقة بالتهرب من الضرائب، وبتزوير أوراق رسمية، ويجد على الدوام من يصدقه من الأمريكيين، الذين لا يبالون بالتفلت من القوانين، ولا بتهم العدوان والتحرش الجنسي، الذي احترفه ترامب، وقد كان شيء منها كافيا في ما سبق للإطاحة بحظوظ مرشح رئاسي، وعلى نحو ما جرى مع غاري هارت، وكان مرشحا واعدا، توقعوا له أن يهزم الجمهوري جورج بوش الابن، لكن خبرا صغيرا عن علاقته بفتاة في حملته الانتخابية، أطاح مبكرا بحظوظه في السباق داخل الحزب الديمقراطي، ودفعه للانسحاب فورا، بينما يستطيع ترامب أن يواصل تبجحه، رغم ركام الاتهامات المشينة، وأن يجد كتلة صلبة من خلفه، تؤيده في كل الأحوال، مادام يبدي فظاظة أكبر، ويظهر عنصرية أوضح، ويدعم نزعة تفوق العرق الأبيض، ويبدي احتقارا للمهاجرين والأقليات، ويشكل هؤلاء العنصريون نحو نصف البيض في أمريكا الراهنة، أي نحو ثلث إجمالي الناخبين، وقد قاده هؤلاء من قبل إلى كرسي الرئاسة، وهزم بهم هيلاري كلينتون، التي حصلت على مليون صوت أكثر من ترامب في التصويت الشعبي، بينما حصل ترامب على عدد أكبر من مندوبي الولايات، وهو عوار مستقر في النظام الانتخابي الأمريكي العتيق، لا يرغب أحد في إصلاحه.

ما علينا، المهم أن ترامب دخل حربه الأخيرة، ويريد كسب الرئاسة الثانية، ولا يكتفي بالأولى، التي دمّرت أو كادت معنى امتياز أمريكا، ولا مانع عند ترامب من الخروج عن أي نص، فهو يصف جو بايدن بأنه «جو النعسان» رغم أن كليهما في العمر المتقدم ذاته، كلاهما يقارب الثمانين من العمر، وهو عمر بيرني ساندرز نفسه ممثل الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي، الذي انتهى إلى دعم بايدن، وهو ما يبرز شيخوخة آلت إليها الديمقراطية الأمريكية، ويشجع ترامب على المزيد من انتهاكها، وتحويلها إلى وضع شبه ملكي، فقد أشار مرة إلى ما سماه رغبة الأمريكيين في انتخاب ابنته إيفانكا من بعد نهاية رئاسته، وهو يحذر طوال أسابيع من احتمال تزوير الانتخابات، وأنه لن يسلم السلطة طوعا إذا حدث ما يصفه بالتزوير، ويستعين بالمحكمة العليا، التي صارت له الأغلبية بين قضاتها، واستبدل قاضية موالية لسياسته بقاضية ليبرالية متوفاة مؤخرا، ولم ينتظر حتى تنتهي الانتخابات، كما تقضي أبسط اعتبارات النزاهة، فهو لا يبالي أبدا بتقاليد حرية الإعلام، ولا باستقلال القضاء، ويخوض حربا شخصية تماما، بدعوى أن التصويت عبر البريد كارثة، رغم استقرار العمل به تاريخيا، ورغم ازدياد الحاجة إليه، مع مضاعفات تفشي جائحة كورونا، التي افترست الأمريكيين أكثر من غيرهم في أربع جهات الدنيا، وأسقطت منهم ما يزيد على ثلث ضحايا العالم كله، وبما يجعل التصويت بالبريد اختيارا أكثر أمنا من الذهاب إلى زحام المراكز الانتخابية، والتقاط عدوى كورونا، بما يثير قلق ترامب، فأنصار منافسه الديمقراطي يبدون أكثر احترازا، وتصويتهم الكثيف عبر البريد، قد يدمّر فرص إعادة انتخاب ترامب، الذي أكد رفضه التسليم بالنتائج، لو لم تأت على هواه، وانتظار فرز يدوي، تجريه المحكمة العليا، قد يلغي حالات التصويت بالبريد بعضها أو كلها.


وبالطبع، قد لا يستفيد ترامب من محاولات الاحتيال، وقد يخسر حربه الأخيرة، فما تبقى صلبا من المؤسسة الأمريكية يعارض شطحاته، وكلنا يذكر معارضة الجيش الأمريكي والبنتاغون لأوامر ترامب، حين طلب نزول العسكر لإخماد مظاهرات رفض العنصرية وقتل السود بالمجان، وبما اضطر ترامب لابتلاع الإهانة مؤقتا، خصوصا أن ريح التطورات جاءت بما لا يشتهي، وعصفت جائحة كورونا بإنجازاته الاقتصادية، التي كان يفاخر بها، وأفقدت الاقتصاد الأمريكي نحو ربع ناتجه القومي الإجمالي، ثم جاءت مقتلة الأسود جورج فلويد الشنيعة، وأثارت ضده الشارع الأمريكي، ولم تفلح إيحاءاته بالتوصل إلى لقاح ضد كورونا قبل إجراء الانتخابات، ولا تبدو محاولاته لتحسين خطوط دفاعه مؤكدة النفع، فقد صرف غاية جهده لكسب جمهوره المتعصب عرقيا ودينيا، وحشد اليمين المسيحي معه، خصوصا من جمهور الإنجيليين المحرفين، أو ما يعرف عندنا اصطلاحا باسم «المسيحية الصهيونية» استنادا لكون نائبه مايك بنس من رموزها الأصولية، ثم زاد ترامب من وتيرة خدماته المتلاحقة لإسرائيل، ولجماعات الضغط اليهودي الأمريكية، على أمل كسب نفوذها المالي والدعائي، وقاد ترامب أتباعه العرب بالتوازي إلى إتمام اتفاقات الهرولة للتطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وقد يكون لذلك كله أثر انتخابي ما، لكنه لا يبدو حاسما عند عامة الناخبين الأمريكيين، الذين يهتمون عادة بأوضاع الاقتصاد المتردي، أكثر من أي شيء آخر، ثم بفرص الخلاص من جائحة كورونا، التي هددت بابتلاع ما تبقى من الحلم الأمريكي، ومن شعار ترامب الدعائي «أمريكا عظيمة مجددا».


وقد يؤدي شعور ترامب بالخطر المتزايد على مصيره الشخصي، إلى الاتجاه لقلب الطاولة، وإشعال حروب جديدة، ليس داخل أمريكا وحدها، بل على اتساع المعمورة، وفي ضربات متناثرة، قد يرى ترامب أنها تجلب له تأييدا يحتاجه بشدة، وقد بدا لوقت، أن حروبه التجارية مع التنين الصيني قد تفيده، لكنها لم تؤت الأثر المطلوب، وهو لا يملك بالطبع فرصة إشعال حرب عسكرية ضد الصين، ولا ضد جوارها في كوريا الشمالية، التي أفشلت مساعيه في دفعها لتوقيع اتفاقية التخلي عن الأسلحة النووية، فكوريا الشمالية تحتمي بالمظلة الصينية، وبدعم روسيا، وهو ما قد يدفع ترامب إلى تجريب حظه في صحراء الربع الخالي، أي في المنطقة العربية وجوارها الإيراني بالذات، وهو ما يفسر تحركات ترامب الأخيرة في العراق، وتهديدات وزير خارجيته مايك بومبيو، والتجهيز لقرارات غلق أو نقل سفارة أمريكا بالعراق من بغداد إلى المنطقة الكردية الآمنة نسبيا في أربيل، وإفساح المجال لضربات أمريكية نوعية، تريد بها اصطياد قادة المليشيات التابعة لإيران في العراق، وعلى نحو يتواقت مع تهديدات إسرائيلية معلنة باغتيال حسن نصر الله زعيم «حزب الله» اللبناني.


والمعنى ببساطة، أن ترامب يريد نصرا عسكريا بأقل تكلفة، قد يفيده انتخابيا عند الجمهور الأمريكي، بعد أن بهتت ذكريات عملية اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني في بداية العام الجاري، وقد يفعلها ترامب مجددا، وعلى طريقة شمشون، بهدف كسب الفرصة الانتخابية على جثث أعدائه.

 

(عن صحيفة القدس العربي)

2
التعليقات (2)
مجدي ابو راسم
السبت، 03-10-2020 08:18 م
الكاتب لديه قدرة على تحليل الواقع الانتخابي في اتلولايات المتحدة، ومصاب بخرس نخبوي إن كان الأمر متعلق بالسيسي وعاصاباته، لكنه يستطيع مد اللسان من جديد حول الأخونة، هذه النخب الفاشلة القومجية لم تعد تصلح لتقديم اي خطاب أو تحليل سوى تمجيد أحذية العسكر وسلطانهم المطبع والمتصهين الأول
عبد الكريم
السبت، 03-10-2020 04:00 م
والله زمان يا قنديل، فكرتنا بمقالاتك الشجاعة ضد مبارك في عز قوته، ويومها أخذك أمن دولة مبارك إلى الصحراء وتركوك عاريا، وبعد أن تحررت مصر من مبارك وجدناك مؤيدا للسيسي، ليه يا عم قنديل؟ قالوا ليس حبا في السيسي ولكن بغضا في معاوية، وبعد مدة منعك السيسي من فتح بقك وإلا ...