كتاب عربي 21

عن الذين اكتشفوا نظرية الأمن القومي.. ماذا يريدون؟

ياسر الزعاترة
1300x600
1300x600

كان مثيرا أن نسمع خلال الشهور القليلة الماضية قبل الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الصهيوني، مقولة "الأمن القومي العربي"، وهي تتردد على ألسنة رموز محور "الثورة المضادة".

كان لافتا بالطبع أن مقولة أو نظرية "الأمن القومي العربي" لم تخرج قبل سنوات مثلا، حين كانت مواجهة إيران هي الأولوية بالنسبة للمحور إياه، لا سيما بعد انقلاب الحوثيين، إذ بقي الأمر منحصرا في الحديث السياسي التقليدي حول التدخلات الخارجية، والخطر الإيراني، أو المشروع الطائفي أو المذهبي، إلى غير ذلك من المقولات.

وقد يكون التفسير الأهم لهذا الأمر هو غياب مصر عن المواجهة مع المشروع الإيراني، وهو الغياب الذي جعل ميزان القوى مائلا لصالح إيران بغياب الثقل العربي الأكبر في مواجهتها. وإذا كانت مصر لم تتعاون مع إيران (دعك من علاقتها المتميزة مع النظام التابع لها في العراق)، فإن مجرد حيادها يعد أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لإيران التي تدرك جيدا حقيقة الأوزان في المنطقة.

لن نتحدث عما قبل ذلك في مواجهة المشروع الصهيوني، فتنظيرات الأمن القومي، كانت غائبة خلال مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى، وطرح قمة بيروت لـ"المبادرة العربية" (2002)، وبقي الأمر محصورا في الكلام التقليدي عن الحل السياسي والتسوية وحقوق الفلسطينيين، أو الدولة الفلسطينية، بل إن المبادرة وعدت الصهاينة بعلاقات مع كل الدول العربية إن هم استجابوا لها؛ هي التي شطبت عمليا حق العودة للاجئين، ثم ما لبثت أن عُدّلت كي تشمل بند "تبادل الأراضي" في التسوية، بما يتضمنه التعديل من مخاطر كبيرة، رغم أن الصهاينة لم يأخذوها أصلا على محمل الجد.

اكتشاف نظرية الأمن القومي العربي على هذا النحو اللافت، لم يظهر إلا في الشهور الأخيرة كما قلنا، وذلك في مواجهة تركيا، وتحديدا بعد تدخلها في ليبيا؛ ما جعلها عدوا بالنسبة لمصر التي لا يمكن استخدام مصطلح الأمني القومي إذا لم تكن معنية به مباشرة.

 

اكتشاف نظرية الأمن القومي العربي على هذا النحو اللافت، لم يظهر إلا في الشهور الأخيرة، وذلك في مواجهة تركيا، بعد تدخلها في ليبيا


في ليبيا حضر العداء مع تركيا بالنسبة لمصر في بعدين؛ الأول أن ليبيا تعد من قضايا الأمن القومي المصري، وإن لم تكن بحساسية السودان وقضية مياه النيل مع إثيوبيا. أما البعد الثاني، فهي احتضان تركيا لقوى المعارضة المصرية، وإصرارها على أن ما جرى في يونيو 2013، كان انقلابا، وتبينها لما يعرف بتيار "الإسلام السياسي".

هنا التقى محور "الثورة المضادة"، مع مصر، وظهر مصطلح الأمني القومي، وفقط في مواجهة تركيا، بينما تراجعت إيران إلى المستوى الثاني، وبالطبع لأن النظام المصري ليس منخرطا في المواجهة معها، باستثناء تصريحات عابرة من باب المجاملة لداعميه، ويدرك قادة إيران أنها كذلك.

ما يعني محور الثورة المضادة في القضية هو الأولوية التي تبناها منذ بدء الربيع العربي، ممثلة في مواجهة دعوات الإصلاح والتغيير، مع التركيز على قوى "الإسلام السياسي"؛ ليس بسبب الأيديولوجيا، بل لأنها تصدّرت "الربيع"، وكانت رائدة فيه، وفي بعض ما ترتب عليه لاحقا.

عداء تركيا بالنسبة لهذا المحور ليس مرتبطا إلا بمسألة الإصلاح والتغيير وقوى "الإسلام السياسي" (دعك من فوبيا "الخلافة العثمانية"، فهي لا تعدو كونها أداة تخويف)، لكن استخدامه لمصطلح "الأمن القومي"، إنما جاء لتشجيع النظام المصري على الانخراط في المواجهة مع تركيا، وهو ما أفضى إلى قرار البرلمان بتفويض السيسي بالتدخل العسكري في ليبيا (قضية وقف إطلاق النار الجديدة، هي مجرد محطة في الصراع الليبي بالطبع، وسيعتمد مآلها على تطورات الإقليم والوضع الدولي لاحقا).

المثير في القصة أن المصطلح (الأمن القومي) إنما يحضر في مواجهة تركيا، تبعا لأولويات قوى الثورة المضادة، لكنه يغيب مثلا في حالة إثيوبيا والصراع معها على مياه النيل، وحيث غابت قوى الثورة المضادة عن دعم مصر، بل كانت أقرب إلى إثيوبيا من الناحية العملية.

 

مصطلح الأمن القومي يحضر في مواجهة تركيا، تبعا لأولويات قوى الثورة المضادة، لكنه يغيب مثلا في حالة إثيوبيا والصراع معها على مياه النيل


أما غياب المصطلح في مواجهة المشروع الصهيوني، فهو الأكثر إثارة، لا سيما أنه يأتي وسط مساعٍ لافتة للكيان في اتجاه تصفية القضية الفلسطينية والتوجه نحو هيمنة على المنطقة. أما الأسوأ على الإطلاق، فيتمثل في مساعدة الكيان على إنجاز مشروع التصفية عبر التطبيع معه، كما حدث في الاتفاق الإماراتي الصهيوني الأخير، وإعلان دعمه من قبل مصر.

هكذا يتبدى خلل الأولويات المدمّر الذي تعيشه قوى الثورة المضادة، فلا هي تنصر مصر في مواجهة إثيوبيا، ولا هي تتصدى للمشروع الصهيوني الساعي إلى تصفية القضية والهيمنة على المنطقة، ولا هي تحقق شيئا في مواجهة إيران، بدليل الفشل في اليمن والعراق ولبنان، وإن لم يستقر الوضع لإيران فيها بسبب المطاردة الأمريكية (هذه لحساب الكيان الصهيوني بسبب مسألة النووي والصواريخ بعيدة المدى)، وليس بسبب جهود المحور إياه.

هذا الخلل في الأولويات، يستنزف القوم ماليا وشعبيا، ويضعهم في مواجهة مباشرة مع الداخل ومع جماهير الأمة، كما تبدى ذلك بوضوح بعد إعلان الاتفاق الإماراتي الصهيوني. أما الأهم، فهو أنه يضيّع الأمن القومي العربي الذي يتحدثون عنه (لنا أن نتذكّر وضعهم في المحور الخليجي، وحيث يحاصرون الجارة قطر، ويتناقضون مع عُمان والكويت)؛ بدل المحافظة عليه، وذلك من خلال تماسك يضع الوضع العربي في حالة من الندية مع إيران وتركيا، ويقود إلى تفاهمات توقف هذا النزيف المدمّر للجميع، وتفضي لاحقا إلى دعم المقاومة في فلسطين، وصولا إلى تفكيك المشروع الصهيوني الذي يستهدف الهيمنة على المنطقة عبر تكريس تشتتها وإدامة الصراعات بين محاورها ودولها.

والحق أن قوى "الإسلام السياسي" التي تتم مطاردتها، هي الأكثر إدراكا للمخاطر التي يتعرّض لها الأمن القومي العربي، من خلال المشروع الصهيوني ومن خلال مشروع التمدد المذهبي الإيراني، في حين لا ترى في تركيا عدوا، بل جارا يسهل التعاون معه. ولو كانت هناك جهود لحل سياسي دائم في ليبيا، ومصالحة في مصر، وفي عموم الدول التي اشتبكت معهم، فإن تلك القوى ستتجاوز جراحاتها، وستدعم تماسك الوضع العربي، والبحث عن تفاهم إقليمي مع إيران وتركيا، بجانب مواجهة المشروع الصهيوني، بدل النزيف الرهيب الراهن، لكن قوى الثورة المضادة لا تزال على أولويتها المدمّرة. إلى متى؟ الله أعلم.

0
التعليقات (0)