كتاب عربي 21

كورونا.. مدخل جديد للحديث عن المشروع الحضاري

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
السؤال ليس دعابة، ولا سخرية، ولا استخفافا، لكنه مدخل جديد للحديث عن المشروع الحضاري العربي الإسلامي، باعتباره أحد المشاريع الكامنة المرشحة للقيام من نومها، في مستقبل يتحسب له جيداً حراس الحضارة الغربية المهددة بالفيروس المريب، ومن قبله بالتناقضات الكثيرة التي نالت من سمعتها ومن فرصة استمرارها كنموذج محبوب وملهم بين الحضارات الإنسانية..

كنت قد تساءلت في ختام مقال الأسبوع الفائت:

هل لدينا بالفعل نواة لمشروع حضاري إنساني صالح للمستقبل؟

هل لدينا مقومات حقيقية للنهضة؟

هل لدينا عزم واقعي يستوجب إعادة طرح أفكار المشروع الحضاري عاجلاً؟

أم نكتفي بنقاش ثقافي هادئ حول إمكانية المشروع من عدمه؟

أم نقف في منطقة وسطى ونركز في دراسات استطلاعية ولوجستية تسهم في طرح عملي لاحق للمشروعٍ الحضاري الذي آمن صمويل هنتجنتون بإمكانية تحققه، أكثر مما يؤمن به الكثير من أصحابه؟

(2)
في نهايات الثمانينيات وبدايات التسعينيات من القرن الماضي كتبت سلسلة طويلة من المقالات في صحيفة لندنية عريقة، تحت اسم مستعار هو "محمد جمال القليوبي"، عرضت فيها لأسس المشروع الحضاري العربي بكل ما يحيط به من أسئلة وأحلام. لم تكن مقالات رأي تستهدف الإقناع برؤية فردية أتبناها دون سواها، بل كانت أقرب لعرض ومناقشة طروحات عشرات المثقفين العرب والإسلاميين الذين كتبوا تفصيلا عن هذا الحلم المطروح منذ قرنين، والمهدور منذ زمن أطول. وقد راجعت بعض هذه الطروحات خلال الأسبوع الماضي، لتذكر التفاصيل، ومعرفة ما إذا كانت هناك فرصة فعلا لقيام مشروع عربي إسلامي جديد يستوعب متغيرات اللحظة، ويستثمر الشروخ التي أصابت النظام العالمي في العقود الأخيرة، وهي شروخ عميقة كشفت ثغرات وأخطاء الحضارة الغربية خاصة في حقبة السيادة الأمريكية لها.

وليس خافيا أن هذه الحضارة دخلت منذ عقود مساحة التشكيك والتساؤلات من مفكريها، ومن علمائها، بعضهم اعتبرها حضارة مادية زائفة منحطة معادية لجوهر الإنسانية ومفسدة للبيئة وصحة كوكب الأرض نفسه، وبعضهم كشف السلبيات بغرض الرتق وامتلاك القدرة على ترميم الذات والاستمرار في الهيمنة..

(3)
هذا الاسترجاع السريع للمشاريع القديمة، لم يكن من خلال النصوص المنشورة، فمن الصعب الحصول عليها في عيشة الشتات التي أعيشها، خصوصا وأنها منشورة قبل نعمة الحفظ على شبكة الإنترنت، لكن الاسترجاع من خلال الذاكرة، عوضني بنعمة أخرى، هي نعمة التخفف من زحام التفاصيل والاختلافات الكثيرة بين لغة وأفكار ومنطلقات ومستهدفات أصحاب هذه المشاريع، خاصة وأن الأسماء تنوعت بين اليمين واليسار، والشرق والغرب، والموالين لفكرة الخلافة والمعادين لها والمتجاهلين لهذا الفخ من الأساس. ولما سألت نفسي: ما هي المشتركات التي يمكن  أن تجمع بين أفكار مالك بن نبي وعابد الجابري وحسن حنفي ورشيد رضا والكواكبي ومحمد عمارة وحسين مروة وسيد ياسين وجمال الأفغاني وساطع الحصري، وعشرات، بل مئات الأسماء الأخرى؟ حتى أن أستاذنا الدكتور محمد عمارة الذي تعلمنا من مؤلفاته أهمية المصالحة بين العروبة والإسلام كجناحين لأي مشروع نهضوي مؤمل، اعتذر "عمليا" عن بعض أفكاره القديمة، وأعاد البحث عن "معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا" حسب عنوان أحد مؤلفاته. وهذا يعني أن بعض الإشكاليات المزمنة (كثنائية العروبة والإسلام) أعادت إنتاج نفسها بشكل سلبي، حتى عند من حاولوا تقديم مصالحة جدلية لحل الإشكاليات المصطنعة لتعطيل مشروع النهضة.

لذلك، تراجعت الخطوات التي قطعها بعض مفكرينا على طريق الحل، وتحولت الجهود إلى تكريس لأفكار ذات طابع صراعي وأحادي، فإما العروبة وإما الإسلام، إما الشرق وإما الغرب، إما المدنية العلمانية وإما دولة الخلافة الدينية، إما الاشتراكية وإما الرأسمالية.. إلخ. وكان أن تلعثمت الطروحات المحفزة لتجاوز هذه الأفخاخ ودخلت المجتمعات العربية في حالة استقطاب، لم يتوقف عند المهتمين بالمشاريع السياسية والحضارية، لكن الاستقطاب وصل إلى الخلايا الجذعية للمجتمعات، والطبقات المحايدة، المنتجة، التي تصلح كأساس مستقر وآمن لأي مشروع نهضة،  حيث تأدلجت هذه الخلايا المحايدة بأيديولوجيات سطحية زائفة، تعتمد على التسويق والترويج والتكرار الإعلامي بلا وعي ولا ثقافة، فتلوثت الفطرة الاجتماعية بأمراض الانقسام السياسي وصراعات المشاريع الفكرية التي لم تتبلور بعد في صيغة اتفاقية تسمح بالمرور الآمن على طريق التطبيق..

(4)
الآن، وفي ظل الحديث الواسع عن متغيرات وشيكة وضرورية في شكل العالم، وفي ظل الحديث عن إمكانية ترتيب جدول القوى الدولية بما يؤدي إلى تقدم قوى وتراجع أخرى، تأتي الصين في مقدمة القوى المتصارعة مع قيادة الحضارة الغربية في واشنطن، لكن هذا لا يعني أن الحضارة العربية الإسلامية معدومة الفرص إلى نهاية التاريخ، أو حسب التساؤل الاحتمالي الوارد في عنوان المقال: ألا يمكن أن يعلن فيروس كورونا إسلامه ويحارب في صفوف الحضارة الإنسانية ضد الحضارة المادية المتشيئة التي استهانت بحياة كل الكائنات والنباتات على الأرض؟

السؤال يبدو لطيفاً من ناحية الصياغة المثيرة للدهشة، ويبدو قريباً من الأمنيات والخيال الدرامي، لكن هذه اللطافة ليست خالية تماما من التفكير الواقعي. ألا يقرأ الأولاد في درس التاريخ أن الطاعون هزم نابليون في الشام؟ ألا يعرف القراء أن الأوبئة غيرت الكثير في ترتيب وتركيب الدول ونتائج الحروب؟ فلم يكن للدولة الطولونية في مصر أن تسقط بغير موجات الأوبئة، ولم يكن الفاطميون يؤسسون خلافة في القاهرة لولا الشدة المستنصرية وما تلاها من خراب اقتصادي عظيم، والأمثلة في أوروبا كثيرة. لكن الفيروسات لا تخوض الحروب بمفردها، فإلى جوار الطاعون ساهمت أسوار عكا في هزيمة نابليون، كما ساهمت الأوضاع الداخلية المرتبكة في فرنسا وعوامل أخرى متضافرة..

(5)
هكذا لا يصح الرهان (في تأسيس مشروعنا الحضاري) على كورونا وحده، فبرغم أنه جندي عظيم يضرب القوى المهيمنة على العالم ضربات موجعة في "الكعب الضعيف"، إلا أن الانتصار لا يتحقق فقط بحجم الخسائر التي تصيب العدو، يجب أن يكون الطرف المنتصر مؤهلا لفكرة النصر، وقادرا على حمايته بعد تحققه، ومالكا لتصور ماذا سيفعل في إدارة الحياة بعد انقضاء المعركة...!!!

(6)
دعوني أتوقف قليلا أمام هذا التصور الدرامي كما قدمه العقل الأمريكي نفسه، فخلال العقود الأخيرة كان العقل الأمريكي يتخوف من زوال حضارته بعد كارثة سريعة ومدمرة لكل مظاهر المدنية، سواء عن طريق وباء أو كارثة طبيعية أو غزو فضائي او غارة وحوش أو سيطرة روبوتات مبرمجة بالذكاء الاصطناعي، لكن أكثر هذه التصورات تشاؤماً (مثل رواية "الطريق" لكورماك مكارثي) كانت تسجل الخراب كواقع مستقبلي من دون أن تشير إلى أي دور لحضارة أخرى تمتلك القدرة على إنقاذ البشرية، فالمنقذ إما بطل يهودي ذكي وشجاع، وإما ابطال أمريكا الخارقون. لكن على المستوى السياسي والأيديولوجي ظلت الحضارة الإسلامية شبحاً يؤرق قادة أمريكا ويشغل مستودعاتها الفكرية، كواحدة من الحضارات العملاقة النائمة، التي يحرص الغرب كله على ألا تستيقظ من نومها أبداً، حتى لا تدور الدائرة وتعود بالغرب إلى ما قبل الحروب الصليبية والكشوف الجغرافية..

(7)
أنبه إلى بديهية لا تفوت عليكم، وهي أن التصدي للحديث عن مشروع حضاري عربي، لا يعني تقديمه كـ"روشتة" طبية، في ورقة صغيرة أو جلسة واحدة، كما لا يعني أنه جاهز للتنفيذ بمجرد الاتفاق النظري على الأسس والمقومات والضرورة، لكنه يضعنا جميعا أمام "سؤال العمل"، وهذا السؤال بالمعنى الديمقراطي (والحياتي عموما)  يقوم على افتراض شائع في لعب الأطفال والكبار معاَ:

"لو لقيت مليون دولار هتعمل بهم إيه؟".

هذا السؤال يختص بأسلوب التعامل الاستراتيجي مع "الفرصة السانحة" حسب تعبير نيكسون، الذي قدم في كتاب بهذا العنوان تصوره لضرورة قمع الحضارة الإسلامية من المنبع لتظل أمريكا مهيمنة في مقعد الحضارة، كما أن هذا السؤال هو الفريضة التي لم تؤدها جماعة الإخوان المسلمين، فأهدرت فرصتها السانحة عندما وجدت المليون دولار في ميادين الربيع العربي، لأنها سلمت الحقيبة للشرطة، وانخرطت مع النظام القديم، لأنها لا تمتلك إجابة على السؤال الاستراتيجي: لو وجدت الفرصة، ماذا ستفعل؟ وكيف يمكن أن تكسب منها وتجعلها نعمة بدلا من أن تجعلها نقمة؟

(8)
لا أرغب في فتح مسار جانبي للتفكير، لكنني أيضا لا أرغب في تجاهل الأمثلة الحية من ممارساتنا التي تفصل بين الفكرة وتنفيذها، أو التي تخلط بين "المشروع الحضاري" وبين "عقدة امتلاك الحكم". فالمشروع الحضاري لا يتطلب بالضرورة القاطعة امتلاك سلطة الحكم العليا (الملكية في بريطانيا نموذجا)، وإنما تتطلب إرادة التوافق الحر على مشروع نهضوي يغذي انتماء كل مواطن ويملأ رأسه بالفخر، ويحركه راضيا للعمل بحماس تحت راية المشروع. وهذا يعني أن المشروع الحضاري لن يقوم في بلادنا بانتزاع السلطة والسعي لفرض المشروع قسرياً بقرارت علوية، لكن الفرصة الأفضل هي تأسيسه من أسفل لأعلى، مع ضمان امتلاك أدوات لا تهيمن عليها السلطات التابعة لمشروعات معادية؛ تضع نصب أعينها هدف تنويم العملاق النائم وتكسير كل المحاولات التي قد تؤدي ليقظته..

(9)
هل هذا يعني أن نهضة هذه الأمة مرهونة بتأسيس مشروع حضاري شامل؟

وهل يجب أن يكون هذا المشروع إسلاميا وليس غير ذلك؟

وهل المشروع الإسلامي يعني فقط إحياء نموذج الخلافة القديم، أو ببعض التحديثات؟

وهل يقتصر المشروع على المحيط العربي أم يشمل دولا إسلامية لا تنطق العربية؟

أسئلة كثيرة ستواجهنا، وهذا ليس معطلاً، المعطل أن نعيد الإجابات القديمة ونتكاسل عن الاجتهاد بحثاً عن الجديد الملائم للعصر ومتغيراته.

وأتعشم أن تسمح الأحداث بالاستمرار في النقاش المفتوح حول الأسس الجديدة التي يمكننا التوافق عليها من أجل مشروع حضاري إنساني، لا يلغي الحضارة الغربية ولا يتصادم مع أي حضارة أخرى، لكنه يضمن عدم الهيمنة، وعدم الأحادية، وعدم الإفساد الذي تمادت فيه الحضارة الغربية كحضارة سادت فأفسدت.

[email protected]
التعليقات (0)