مقالات مختارة

هوان المواطن في بلاد العرب

عمرو حمزاوي
1300x600
1300x600

الهوان، هذا هو ما آل إليه حال الكثير من الأطفال والعجائز والنساء والرجال العرب الذين تهجرهم اليوم حروب الكل ضد الكل وثلاثية الاستبداد والتخلف والإرهاب من أوطانهم وتزج بغالبيتهم الضعيفة والفقيرة وغير القادرة إلى مخيمات اللاجئين أو تفرض عليها افتراش طرقات المدن ومد اليد طلبا لقضاء بعض متطلبات الحياة.


ها هي مشاهد النصف الأول من القرن العشرين التي وثّقت لوحشية ودموية العصابات الصهيونية وجرائمها ضد الإنسانية وتهجيرها للأسر الفلسطينية من قرى ومدن وطن أبدا لن يتناسوه تستنسخ اليوم في سوريا التي تهجر بها الأطراف المتحاربة الشعب الأعزل بين مناطق الصراع والاقتتال أو تجبره بوحشيتها ودمويتها وإجرامها على اللجوء إلى المخيمات المنتشرة في بعض المناطق الحدودية أو الارتحال إلى بلدان الجوار وربما منها إلى ملاذات أبعد جغرافيا.

 

ها هي مشاهد النصف الثاني من القرن العشرين التي وثّقت لموجة ثانية من تهجير الشعب الفلسطيني باتجاه الجوار العربي في أعقاب احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة ومن التمدد المكاني وتضخم الكثافة السكانية لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بعض المناطق الحدودية وعلى أطراف بعض المدن العربية يعاد إنتاجها خلال العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين من دون توقف وبإجرام لا يختلف عن إجرام الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين، فقط تتباين الأماكن وتتنوع مسارح عمليات التهجير وتتعاقب موجات اللاجئين، من عراق ما بعد الغزو الأمريكي في 2003 إلى سوريا حرب الدمار الشامل الراهنة بين المستبدين والمجرمين والقوى الإقليمية الباحثة عن النفوذ ومرورا بسودان ما بعد الانفصال ومخيمات اللاجئين المهجرين من الشمال إلى الجنوب وبالعكس.

 

لا أبواب لخروجنا السريع من الهوان، ولن ننجح نحن عرب بدايات القرن الحادي والعشرين في الانتصار لحق المواطن في الحياة الكريمة والآمنة من دون لململة لأشلاء الدول الوطنية تبدأ بالتحول الديمقراطي والتنمية المستدامة واستعادة السلم الأهلي.

 

ها هي مشاهد الثلث الأخير من القرن العشرين التي وثّقت لحرب الجنون الطائفي في لبنان ولاقتتال أهلي على الهويات الدينية والمذهبية ولتهجير مجرم مدفوع أيضا بهواجس الهوية لكتل سكانية كبيرة في البلد الصغير تتحدى مجددا في السنوات الأخيرة ضمائر العرب وضمير الإنسانية بطائفية مقيتة في عراق ما بعد الغزو الأمريكي تنتهك حق الشباب المطالب بالتغيير في الحياة وتنتهك أيضا حق المواطنات والمواطنين من السنّة في الوجود الآمن وتتلاعب بمصائرهم، بعد أن انتهك المستبد قبل الغزو حقوق مجموعات المواطنين الأخرى من شيعة وأكراد واختزل الدولة الوطنية في فرد وعشيرة وقبيلة، وبإجرام إرهابي يهجر من بعض المناطق العراقية والسورية السكان المسيحيين ويدمر كنائسهم ويرتكب بحقهم جرائم ضد الإنسانية ومعوّلا على حروب الكل ضد الكل لتذكيرنا بمحطات الجنون والكراهية المتكررة في تواريخنا وتواريخ غيرنا من المجتمعات البشرية.

 

تتكرر المشاهد الدامية ذاتها في الاقتتال الأهلي في اليمن وليبيا والذي تتآمر على تأجيجه من جهة صراعات الهوية وصراعات الموارد والقوة والنفوذ ومتواليات انهيار الدول الوطنية وانتشار السلاح التي يعتاش عليها الإرهاب، ومن جهة أخرى تناقضات مصالح الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة. والحصيلة هنا أيضا هي مأساة إنسانية تتنوع مسارحها ـ ومخيمات لاجئين تتمدد مكانيا وتتضخم سكانيا لتجعل من بلاد العرب حزام اللاجئين الأكبر في عالم اليوم.


اليوم، تواجهنا طرقات المدن العربية ببضاعة مجتمعاتنا المعاصرة الأكثر رواجا، جموع من الأطفال والعجائز والنساء والرجال الذين صاروا ضحايا حروب الكل ضد الكل وضحايا ثلاثية الاستبداد والتخلف والإرهاب وتطالعهم أعيننا في عجز موجع. خليط يدمي من اللهجات العربية تلقيه على مسامعنا حناجر أمهات عراقيات وسوريات وفلسطينيات (ممن كانت أسرهن تقيم في مخيمات اللاجئين في سوريا قبل 2011، ثم هجرهن الجنون الراهن وأجبرهن على اللجوء من اللجوء) ويمنيات وهن يتسولن طلبا لإنقاذ مؤقت للأطفال والعجائز من مصائر الجوع، خليط لهجات يزج بنا جميعا إلى مصائر هوان عرب بدايات القرن الحادي والعشرين.

 

وفي الواجهة أيضا، أرقام تنشر وبيانات تصدر عن منظمات أممية ومؤسسات إقليمية وجهات حكومية وغير حكومية تحدثنا عن مجتمعات ودول غنية بعيدة عنا تتعطل ضمائر حكوماتها فترفض تقديم العون الكافي لتمكين ضحايا من الحياة، وعن حكومات قريبة منا تواصل الإنفاق على تسليح المتورطين في حروب الكل ضد الكل وفي الاقتتال الأهلي بحثا عن النفوذ والسيطرة بينما تمتنع عن تقديم المساعدات الإنسانية.

 

لا أبواب لخروجنا السريع من الهوان، ولن ننجح نحن عرب بدايات القرن الحادي والعشرين في الانتصار لحق المواطن في الحياة الكريمة والآمنة من دون لململة لأشلاء الدول الوطنية تبدأ بالتحول الديمقراطي والتنمية المستدامة واستعادة السلم الأهلي لكي تتوقف حروب الكل ضد الكل وتتوارى ثلاثية الاستبداد والتخلف والإرهاب. غير ذلك سينعون قريبا اختفاء مجتمعاتنا، ولن يبقى من شواهدنا سوى مخ لا أبواب لخروجنا السريع من الهوان، ولن ننجح نحن عرب بدايات القرن الحادي والعشرين في الانتصار لحق المواطن في الحياة الكريمة والآمنة من دون لململة لأشلاء الدول الوطنية تبدأ بالتحول الديمقراطي والتنمية المستدامة واستعادة السلم يمات اللاجئين.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)