مقالات مختارة

سؤال الإنقاذ الواجب طرحه

علي محمد فخرو
1300x600
1300x600

منذ بضعة شهور تفاءلنا بمجيء الحراكات الجماهيرية الجامعة، المتخطية للولاءات المذهبية والقبلية والعائلية، المتجذرة في الكثير من بلاد العرب، التي انطلقت في شوارع عواصم ومدن السودان والجزائر ولبنان والعراق.


ومع أن تلك الحراكات كانتت تمة لموجة ما عرف بالربيع العربي، وكانت ترفع الشعارات المطلبية نفسها، إلا أنها تميزت بخاصيتين هما: السلمية المبهرة من جهة، والإصرار على وجود قوى سياسية جديدة غير ملوثة بالفساد والتسلط، تتخطى الطبقة الحاكمة السابقة وتهيئ لفترة حكم انتقالية، قادرة على نقل تلك المجتمعات إلى بر الأمان الديمقراطي السياسي والاقتصادي، القائم على العدالة والمواطنية المتساوية والقانون الشرعي ونزاهة الحكم.


وبالفعل بدأت رياح التغيير في المشهد السياسي تهب بصور مختلفة، وبدرجات متفاوتة، وكان النجاح السوداني هو المثل الذي حمل أملاً كبيراً في حدوث تغييرات جوهرية مستقبلية، لكن يتبين يوماً بعد يوم أن قوى الدولة العميقة، في الكثير من بلاد العرب، التي هي خليط من قوى مالية وعسكرية واستخباراتية، وتحالفات مع قوى خارجية، لن تغيب عن المسرح، من دون خوض معركة حياة أو موت، وأن في يدها الكثير من الحيل والأساليب، لحرف تلك الحراكات السلمية النبيلة عن الطريق الذي اختارته لنفسها في البداية، ولإدخالها بالتالي في متاهات غامضة، تجعل تلك الحراكات تدور حول نفسها، حتى لا تصل إلى تحقيق أهدافها الكبرى التي أشهرتها.


وهكذا نرى أمامنا الآن كيف أقحم موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني، إبان أحلك أيام النضال العربي ـ الفلسطيني أمام المؤامرة الأمريكية ـ الصهيونية، حتى تعم الانقسامات والصراعات بين مختلف القوى السياسية المدنية السودانية، وحتى ينشغل الحكم الحالي بموضوع كان يجب تأجيل النظر فيه إلى ما بعد الفترة الانتقالية الحالية، وإلى حين وجود سلطة تشريعية شرعية منتخبة بنزاهة، وممثلة بصورة حقيقية لمجموع المواطنين. وبالطبع، فإن الإنسان لا يحتاج إلى جهد كبير ليكتشف ما تخطط له الأيادي الخارجية، المتناغمة مع بعض الأيادي العربية، اللابسة وشاح التآمر الصهيوني، للقضاء على كل أمل في كل بلاد العرب، ولزرع اليأس والتشويه في كل حراك واعد، كحراك السودان الشقيق. وهكذا أيضاً نرى أمامنا لعبة تسمية رؤساء وزارات مقبولين من جموع الحراكات الجماهيرية، التي تجوب شوارع هذا القطر العربي أو ذاك، فبعض قوى الدولة العميقة تظل تلعب لعبة الشد والتراخي، وإرسال البالونات لمعرفة مقدار تصميم الصامدين في الشوارع.

 

وتمر الأسابيع والشهور، من دون الوصول إلى تسميات معقولة وحلول مطمئنة، أملاً من قوى الدولة العميقة في أن ينقسم الناس حول هذه التسمية أو تلك ويملّوا، ثم ينصرفوا إلى بيوتهم. قوى الدولة العميقة تعرف جيداً، عن خبرة تاريخية طويلة، بأن نفس الجماهير قصير وصبرهم محدود، خصوصاً إذا كانت الغالبية من ذوي الخبرة السياسية المحدودة، والتجارب النضالية المتواضعة، فإذا أضفنا إلى كل ذلك حملات التخويف والتهويل، بشأن الأوضاع الاقتصادية المتأثرة بعدم الاستقرار المجتمعي والأمني، من دون الإفصاح عن الانتهازية الخارجية والفساد الداخلي، للاستفادة السريعة القصوى من أوضاع مجتمعية صعبة كهذه، فإننا ندرك مدى الضغوط النفسية التي يواجهها شباب وشابات تلك الحراكات الإصلاحية في طول وعرض بلاد العرب. ما المطلوب أمام كل ذلك؟


المطلوب هو أن يسأل كل من يقف مع الجموع المحتشدة نفسه: هل أنا موجود كفرد حرّ مستقل؟ أم إنني موجود كفرد منتظم متضامن متعاضد مع أخوة مناضلين آخرين في نقابة، أو حزب سياسي غير ملوث بسخافات وفساد الحكم، أو جمعية مهنية أو حقوقية أو نسائية أو تجمع طلابي؟ في رأينا أن الجواب على السؤال الأخير سيحكم مستقبل الحراكات الجماهيرية في تلك الأقطار وفي غيرها.
قوى الدولة العميقة المتفاهمة المتناغمة المتعاضدة، لن تتوقف عن التحايل والتضليل والإنهاك، التي ذكرناها، إلاً إذا واجهت قوى مجتمع مدني منتظمة متفاهمة، مكونة من ملايين الأعضاء المناضلين الواعين، وليس الأفراد المتحمسين القلقين. شباب وشابات الأمة العربية، يجب أن ينتقلوا إلى وضع العمل المدني المنظم الفاعل، حتى لا تبقى الحراكات العربية أصواتا وأناشيد حماس وغضبا وتهديدا، مما يعطي الدولة العميقة القدرة على فعل ما تفعله، تمهيداً للقضاء على أنبل ما عرفته هذه الأمة في منعطفها التاريخي الحالي.

 

(الشروق المصرية)

0
التعليقات (0)