هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بتاريخ 12 حزيران 1895، وفي بداية مذكراته السرية، كتب مؤسس الحركة
الصهيونية، النمسوي ثيودور هرتزل (Hertzl)، وبكلمات لا يشوبها عدم
الوضوح، إنه وحتى تنجح الدولة اليهودية فسيكون «من الضروري أن نخرج السكان غير
اليهود من حدود الدولة اليهودية». وقد أضفى هرتزل على كلماته هذه هالة من النبوة
والنبوءة عندما ادعى – في الوقت نفسه - أنه عندما شارف على الثالثة عشرة من العمر،
شاهد حلما في المنام، مفاده بأن المسيح المنتظر حمله لملاقاة النبي موسى، فأبلغه
الأخير بأنه الولد الذي صلّى طويلا من أجل قدومه، وقال له المسيح المنتظر: «أخبرْ
اليهود بأنني قادم قريبا وسأقوم بعمل مُعجزات وأفعال كبيرة لشعبي والعالم أجمع»!
وبعد
زيارته الأولى إلى فلسطين في العام 1898، عاد هرتزل فكتب عن «حق اليهود في إخراج
السكان العرب ونقلهم إلى أنحاء أخرى من الإمبراطورية العثمانية». وفي العام نفسه
كتب ناحوم سيركين، وهو من مؤسسي الصهيونية الاشتراكية، طارحا أهمية نقل العرب من
فلسطين. وقد استمر مفكرو الحركة الصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى في ترويج
أطروحة نقل الشعب الفلسطيني إلى خارج وطنهم ومنهم آرثر روبين (Ruppin) وليو موتزكين (Motzkin) ويسرائيل زانغويل (Zangwill)، الذين نشروا مقالات وألقوا محاضرات في عدة
دول أوروبية رغم استياء اليهود المعارضين للفكر الصهيوني وكانوا الأغلبية آنذاك.
وبعد
صدور وعد بلفور وانتهاء الحرب العالمية الأولى، عارض العديد من القيادات الصهيونية
تقسيم الحكومة البريطانية سورية الجنوبية إلى جزأين منفصلين - فلسطين وشرق الأردن،
وطالبت بأن يكون هناك انتداب بريطاني واحد شرق نهر الأردن وغربه... فكان هناك من
الصهاينة المتشددين - كجابوتنسكي (Jabotinsky) من قال إن «إسرائيل الكبرى» يجب أن تضم أراضي المنطقتين، ولكن هناك
معارضين آخرين كانوا يعتقدون بأنه سيكون من الأسهل مستقبلا ترحيل السكان
الفلسطينيين إلى شرق الأردن باعتبار أنه سيظهر وكأنه «عملية تنقل داخلي»! وعندما
لم يوافق البريطانيون على ذلك وكانوا قد وعدوا الشريف حسين وابنه الأمير عبد الله
بإقامة حكم للهاشميين في شرق الأردن، حاولت الحركة الصهيونية إيجاد حلول بديلة
لإخراج الفلسطينيين من فلسطين إلى شرق الأردن أو إلى أي مكان آخر، مع التركيز أيضا
على زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين!
وفي
العام 1930، وبعد عدد من الهبات الفلسطينية كان آخرها ثورة البراق عام 1929، عادت
فكرة «الترانسفير» إلى الواجهة من جديد، فنادى بها وايزمان والعديد من زملائه في
الوكالة اليهودية. وفي العام 1933 تحرك مليونير يهودي يدعى إدوارد نورمان (Norman) وبتنسيق مع وايزمان وبن
غوريون باتجاه مشروع يتضمن شراء أراض زراعية في العراق وعرضها على الفلاحين
الفلسطينيين بأسعار بخسة، كأن يُستبدل كل دونم في فلسطين بعشرة دونمات في
العراق... ولكن الفكرة لم تنجح.
ومع
بداية الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 واشتدادها في العام 1937، طلب بن غوريون
وموشي شرتوك (شاريت) مقابلة المندوب السامي البريطاني آرثر واكهوب (Wauchope) وكرروا على مسامعه
اقتراحا كانا قد تقدما له به في العام 1933، بأن تقوم الوكالة اليهودية بشراء أراض
في شرق الأردن ومن ثم تقوم السلطات البريطانية بنقل الفلسطينيين إليها قسرا. وكانت
الحكومة البريطانية قد أرسلت في العام نفسه لجنة تحقيق برئاسة اللورد بيل (Peel) والتي اقترحت تقسيم
فلسطين إلى دولتين والنقل القسري لأكثر من 250 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم، الأمر
الذي أيده وايزمان وبن غوريون على الفور وأوعزا للوكالة اليهودية بإنشاء لجنة «نقل
العرب» في نوفمبر 1937. وقد اجتمعت اللجنة عدة مرات ووضعت السيناريوهات والخطط
لتحقيق ذلك! ولكن بعد اشتداد المقاومة الفلسطينية مع بداية 1938 وإثارة حفيظة
العرب في باقي الدول العربية، اضطرت بريطانيا إلى سحب اقتراح التقسيم.
أما
الوكالة اليهودية، فاستمرت بالعمل بتوجيهات من بن غوريون الذي كان واضحا بمقولته
الشهيرة آنذاك: «علينا طرد العرب وأخذ مكانهم». فقامت الوكالة بتبني بعض توصيات
لجنة «نقل العرب» وإعداد خطط الترحيل القسري للفلسطينيين، مقترحة (1) البدء بنقل
الدروز من شمال فلسطين إلى جبل الدروز بسورية ومن ثم (2) الاتفاق مع الحكومة
السورية لترحيل الفلسطينيين المقيمين في الجليل الأعلى إلى منطقة الجزيرة الكردية
الواقعة على شواطئ نهر الفرات في شمال شرقي سورية وبنفس الوقت (3) الاستمرار بفكرة
شراء أراض في شرق الأردن وترحيل سكان «يهودا والسامرة « العرب إليها... ولكن أحدا
في الحكومة السورية أو الأردنية أو المعارضة لم يقبل حتى الاستماع لهذه الاقتراحات!
وفي
العام 1938، اقترح بن غوريون أن تدفع الوكالة اليهودية عشرة ملايين جنيه إسترليني
للحكومة العراقية مقابل نقل 100 ألف عائلة فلسطينية وتوطينهم في العراق! وقد أيد
وايزمان هذا العرض في العام 1939 ولكن هذا الاقتراح لم ير النور.
ومع
بدء بريطانيا في التراجع عن نظرية التهجير القسري للعرب، بعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية عام 1945، بدأت الولايات المتحدة بتأييد الفكرة وحمل راية
التهجير، فأيدها علنا رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت ومن بعده الرئيس هاري
ترومان. ومن أجل ذلك، قامت مجموعة من المنظمات اليهودية بتأسيس «اللجنة الأمريكية
لإعادة التوطين» التي اشترت إعلانات ضخمة في الصحف الأمريكية الكبرى، ومنها
«نيويورك تايمز»، مقترحة نقل العرب إلى خارج فلسطين.
وخلال
الحرب العربية الصهيونية عام 1947-1948، استطاعت العصابات الصهيونية المدربة
والمسلحة - وبتوجيه من بن غوريون – ترهيب حوالي 750 ألف فلسطيني فخرجوا من ديارهم
وتشتتوا في عدد من الدول العربية بما فيها شرق الأردن وسورية ولبنان والعراق ومصر،
محققا بذلك أحلام هرتزل ووايزمان وأوسشكين وغيرهم من القيادات الصهيونية. وقد
اشتهرت القصة التي رواها رابين فيما بعد عندما احتلت الهاجانا اللد والرملة، فسأل
بن غوريون عما يفعلون بالسكان، فالتفت إليه الأخير، ودون أن ينطق بكلمة، أشار له
بيده بما يعني «اطردهم!».
وبعد
اندلاع حرب عام 1967، واحتلال ما تبقى من فلسطين، قامت إسرائيل باستخدام الترهيب
لترحيل بعض سكان المخيمات، خاصة مخيمات أريحا، وقد تجاوز عدد الذين تم ترحيلهم
آنذاك أكثر من 100 ألف فلسطيني.
ومنذ
اندلاع الاقتتال في الأردن عام 1970 وحتى حرب العراق في العام 2003، ظل أرئيل
شارون مقتنعا بأن الحل الأنسب بالنسبة للتواجد الفلسطيني المستمر في فلسطين
التاريخية هو العمل على إسقاط النظام الأردني وتحويل الأردن إلى دولة «فلسطينية»،
ونقل السكان الفلسطينيين عنوة إلى الأردن. بل كان يصرح بأن تقديم أي دعم للنظام
الأردني خطأ جسيم. ومن هنا رفع حزب الليكود شعار «الأردن هي فلسطين» منذ أن تسلّم
مناحيم بيغين الحكم في أواخر السبعينيات.
وخلال
الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، تولد لدى شارون سيناريو جهنمي يتضمن سقوط
نظام حكم الملك عبد الله الثاني في الأردن خلال الحرب، من خلال «ثورة جماهيرية»
وإعلان «دولة فلسطينية»، وفي ذلك الخضم تقوم إسرائيل – وبداعي الخوف من الإرهاب -
بترحيل أعداد كبيرة من الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن عن طريق «ترويعهم
بقصف مدفعي مكثف ومستمر»، يضطر الفلسطينيون خلاله إلى النزوح مع عائلاتهم شرقا!
والجدير
بالذكر أن هرتزل اختتم مذكراته السرّية متحدّثا عما سيحدث عندما يقوم اليهود بطرد
الشعب الفلسطيني: «في البداية، ستقوم الشعوب المتحضّرة بالانكفاء عنا، وسيعتبرون
ما قمنا - ونقوم - به غير مقبول وتفوح منه رائحة سيئة. ولكن مع مرور الزمن، سيتغير
الرأي العام العالمي لصالحنا، وبنفس الوقت سنكون قد ثبّتنا أقدامنا في دولتنا، ولم
نعد نخاف من مجيء الوفود الأجنبية، وسنقابل زوّارنا بأخلاق أرستقراطية عالية ووُدّ
ممزوج بالفخر والاعتزاز»!
واليوم
فجميعنا يعرف أن ما تفكر به الحكومة الإسرائيلية الحالية لا يختلف على الإطلاق عما
فكّر به هرتزل ووايزمان وبن غوريون وشاريت وبيغن وشارون! فما زال المطلوب ترحيل
أعداد كبيرة من الفلسطينيين المقيمين ما بين النهر والبحر، وإلا فلا يمكن أن ينجح
مشروع الدولة اليهودية الديمقراطية على كامل تراب فلسطين كما حلم بها هرتزل عام
1895.
وبالمقابل،
فإن المطلوب من القيادة الفلسطينية اليوم التركيز على تنفيذ وتمويل إستراتيجية
متكاملة لدعم صمود المواطن الفلسطيني في أرض آبائه وأجداده ومن أجل ألا يرحل طوعا
أو قسرا. ولكن المطلوب أيضا من المواطن الفلسطيني – وكما فعل أهلنا في الداخل عام
1948 ويفعل إخوتنا المرابطون يوميا حول المسجد الأقصى في القدس وكافة نقاط التماس
مع المستوطنين – ألا يقبل بالرحيل أو الترحيل تحت أي ظرف من الظروف... وكما علمتنا
الفتاة الصامدة عهد التميمي، فإن البقاء اليوم على أرض فلسطين أهم بكثير من أي سبب
للرضوخ للترحيل والترانسفير!
عن صحيفة الأيام الفلسطينية