كتاب عربي 21

عولمة الميديوكريت (2)

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
قبل أسبوعين، كتبت مقالا بعنوان "تحالف الميديوكريت المميت"، حذرت فيه من عصابة الرداءة التي تهيمن على كل شيء في مصر، بحيث تدنى مستوى كل شيء.. في السياسة والاقتصاد والطب والثقافة والإعلام وفي الأخلاق أيضا. والحقيقة أن ظاهرة التدني وانتشار الرداءة لم تقتصر على مصر وحدها، بل تحولت إلى سمة تعاني منها مجتمعات كثيرة، حتى في الدول الكبرى المتقدمة، وهذا ما دفع أستاذ العلوم السياسية في جامعة مونتريال، آلان دونو، لإصدار كتاب كامل بعنوان "مديوكريت" هاجم فيه زيف المدنية الحديثة، حتى كاد ينفي عنها صفة "الحضارة الإنسانية". فقد تحول الغش إلى ظاهرة صناعية، وتحول التغليف إلى قناع عصري لتمرير الرداءة تحت أسطح لامعة مبهرة تخفي داخلها سلعا فاسدة.. لقد نجح الغشاشون الجشعون في الاستيلاء على عقل العالم واحتلال إرادته، لقد أصبحوا الآن "يبرمجون" سياسات الدول، ورغبات الناس في الاستهلاك، ويبيعون حالة الطقس ومواصفات العشق والعشاق.

ظاهرة التدني وانتشار الرداءة لم تقتصر على مصر وحدها، بل تحولت إلى سمة تعاني منها مجتمعات كثيرة، حتى في الدول الكبرى المتقدمة

 


(2)
يقول الشعراء إن الرأسمالية فشلت في برمجة العواطف والمشاعر، لذلك فإن الفرصة لا تزال سانحة أمام الرومانسيين لكسب المعركة وتحرير الحياة من التسليع والتشيؤ، برغم الهوس المادي الذي يسيطر على العالم، لكن آلا دونو يقول في كتابه إن كلام هؤلاء الشعراء الهائمين مجرد "وهم رومانسي" بعيد عن الواقع؛ لأن المعركة انتهت لصالح شياطين الفساد في الأرض.

(3)

 

فالناس يمضون في الطرق الصحيحة بغية تحقيق أهداف فاسدة، ثم يغيرون اتجاهاتهم ويمضون في الطرق الخاطئة بغية تحقيق أهداف نبيلة!

صدمتني كلمات دونو؛ لأنني من أولئك السذج المؤمنين بقوة الأحلام، وقدرة المشاعر الرومانتيكية على تحقيق انتصارات ضد البرجماتيين المرتزقة، لذلك أرفض بإصرار فكرة "نهاية التاريخ"، والتسليم بانتصار الواقع الرديء على اليوتوبيا المنشودة، وذلك برغم الأدلة الدامغة التي تؤكدها يوميا: نشرات الأخبار، وتقارير أجهزة المخابرات، وانتعاش الأفكار المنحرفة في كل المجالات، بل واعتبارها أحدث صيحة في منتجات حضارة "ما بعد الحداثة"، حيث ينعدم المعنى والهدف والزمن والسياق، وتتقاطع الطرق في متاهة دائرية لا تفضي إلى شيء. فالناس يمضون في الطرق الصحيحة بغية تحقيق أهداف فاسدة، ثم يغيرون اتجاهاتهم ويمضون في الطرق الخاطئة بغية تحقيق أهداف نبيلة!

(4)
لقد ظلت عصفورة الحلم (لزمن طويل) تحلق بلا استقرار في سماء الفن والفلسفة، بينما استقرت عجرفة اليقين على أرض العلم برعاية أباطرة السياسة، وتحت حماية الاقتصاد العتيق الذي يتأنق مختالا في ملابسه الكلاسيكية، مؤكدا انضباط العالم على قوانين الأرقام، ومؤشرات البورصة، كأن آدم سميث قد عاد ليسخر من كارل ماركس ويدعوه للاعتراف بمزايا الرأسمالية، غير عابئ بصرخات الأولاد المتمردين الذين يناهضون "وول ستريت"، وعندما يشير ماركس إلى ما يفعله أولئك الشباب، يرد عليه سميث بفخر: إنهم دليل إضافي على عظمة الرأسمالية، وإيمانها العميق بالديموقراطية.

(5)
أمام هذه المفارقة، وفي أوج الأزمة المالية العالمية الأخيرة (2008 وما بعدها)، خرج "مارك بونان" من القطيع الرأسمالي وتمرد على آدم سميث، وعلى غلاف كتابه "الذرة الاجتماعية"، وجه سؤاله ذا النكهة الاشتراكية: لماذا إذن يزداد الأغنياء ثراء ويزداد الفقراء فقرا؟ منذ ذلك الحين راج الحديث عن أزمة الرأسمالية، وعن ضرورة حقنها بأمصال الدعم، وعن العدالة الاجتماعية، وعن مظهر رعاية الدولة، وعن أفكار أخرى اعتبرها الرأسماليون الجدد "بضاعة راكدة من بقايا الاشتراكية". ولما كان ماركس قد أفلس، ويرقد عاجزا في سرير المرض، فقد استولت الرأسمالية على ما تريد من "تركته"، واستخدمته كمسكنات طارئة، تخفف بها آلام ضحايا أكبر جريمة احتيال في تاريخ البشرية، فيما استمرت في "الدهاليز" عمليات التهرب الضريبي، وواصلت مؤسسات "الأوفشور" تخزين الثروات المسروقة في "الملاذات الآمنة".

 

راج الحديث عن أزمة الرأسمالية، وعن ضرورة حقنها بأمصال الدعم، وعن العدالة الاجتماعية، وعن مظهر رعاية الدولة، وعن أفكار أخرى اعتبرها الرأسماليون الجدد "بضاعة راكدة من بقايا الاشتراكية"


(6)
من تلك الدهاليز والملاذات المالية، صاغ آلان دونو مقولته التهكمية عن "جنة التهرب الضريبي"، باعتبارها ديستوبيا واقعية فاسدة، جعلت من يوتوبيا الشعراء الحالمين كابوسا ثقيلا. وهكذا أعاد دونو استنساخ كارل ماركس في صورة جديدة قادرة على مواجهة احفاد آدم سميث المتسلطين، ومن منطلق إعادة الإنتاج والاستنساخ بدأت المقارنة بين "ماركس القديم" و"ماركس الجديد"، فالأول ألماني بلور أفكاره في بريطانيا، والثاني كندي بلور أفكاره في فرنسا. القديم كان متفائلا بالمستقبل، يسعى لتحقيق "الوفرة" في العالم كمدخل للرخاء والاستقرار والشيوعية، والجديد صادم وفاضح ومتشائم، خرج بالاقتصاد من متحف التكلس إلى فضاء "ما بعد الحداثة"، وربط بينه وبين الفلسفة والتعليم والإعلام، واستخدم التحليل الاجتماعي الطازج ليفضح كيف تحولت "الوفرة" إلى إغراق بغيض؟ وكيف يتخفى الوجه القبيح للفساد تحت أقنعة الرفاهية الكاذبة، وخداع التسويق والماركات التي تسحق عقول الشباب وتستلب روحهم بعد أن تمتص قدراتهم المالية والفكرية.

 

آلان دونو فضح كل هذا الزيف، وكشف القناع عن تجار الغش، لكنه لم يستطع أن يقدم خطة للقضاء على هيمنة الرداءة والغش


(7)
كتاب "ميديوكريت" لآلان دونو هو المعادل العصري لكتاب ماركس الشهير، "رأس المال"، لكن فائض القيمة عند ماركس تحول إلى "كل القيمة" عند دونو، لكنه قيمة زائفة مغشوشة، تعطي لمعانا يشبه الذهب، لكنها ليست إلا قشرة سطحية رخيصة من البلاستيك أو الصفيح المطلي، وهكذا تحولت الحضارة الحديثة كلها إلى قشرة متمدينة تخفي تحتها بدائية، وهمجية، وحقارة، ولصوصية، أكثر بكثير مما كان عليه أسلافنا في العصر الحجري. والمؤسف حقا أن آلان دونو فضح كل هذا الزيف، وكشف القناع عن تجار الغش، لكنه لم يستطع أن يقدم خطة للقضاء على هيمنة الرداءة والغش، وكأنه يخبرنا أن العالم سيظل طويلا تحت حكم هؤلاء اللصوص المتأنقين.


[email protected]

التعليقات (0)