الحادثة حقيقية وإن بدت خيالية وأسطورية وغريبة أيضا. كيف يمكن لحشرة ضعيفة ليست لها حتى قوة غريغوري صامصا، حشرة كافكا، في روايته «المسخ» أو «التحــــول». حشــــرة عادية نراها، عشرات المرات تمر أمـــام أعيننا، فنعافها وقد ننشها أو نقتلها: الذبابة. القصة سمعتها من المرحوم الرئيس أحمد بن بيلا، في إحدى زياراتي له، في بيته، في الجزائر وجنيف، وأيضا يوم كان لي شرف اللقاء به في برشلونة، يوم شرفني بحضوره، محاضرتي حول الكتابة والحياة في عز الإرهاب. كنت قد سمعت بحكاية الذبابة أيام تعاوني مع جريدة «الجمهورية»، أيام اعتقال الرئيس بين بيلا، وظلت معي مدة طويلة بين التصديق والتكذيب.
ظللت أستغرب دائما كيف تكسر مؤسسة السلطة/ الدولة رجلا منح حياته كلها لوطنه، قبل أن يتخلى عنه رفاق الكفاح ليصبح مجرد رقم في زنزانة مظلمة، يتماهى مع بقية الظلال الأخرى. لكن مقاومته التي لا تلين تلصق بكل ما يمنح الاستمرار.
جاءت هذه المرة من خلال ذبابة. مجرد ذبابة صغيرة جاءت بالصدفة أو بحكمة في الطبيعة، نجهلها، لتفتح بؤرة نور صغيرة في الظلام الثقيل. الإنسان في حالات اليأس، يلتصق بأي شيء، حتى بقشة عديمة الوزن والمقاومة؟ فتوقظ كل الطاقة الخلاقة النائمة في أعماقه وتكون نائمة أو معطلة، في اللحظات الأكثر يأسا وقسوة بالخصوص عندما يدرك السجين، الذي أعتقل وأدخل في عمق الظلام القاسي، دون أن يعرف لماذا. يدرك فجأة أن الذي رماه في الزنزانة لا يريد قتله، لأنه لو أراد ذلك لفعل بلا تردد. فهو المالك للقوة العليا القادرة على فعل ما تريد، ولكن لتجنينه وتركه بعدها يموت في النسيان. ينتهي في الظلام والجنون بوتيرة هادئة ولكن مدروسة. عندما ينساك الجميع في مستشفى الأمراض العقلية وتمحى من الذاكرة الجمعية. كان بن بيلا بعرف ذلك وأكثر. النسيان في الزنزانة والجنون والعزلة، معناها بداية عملية الإجهاز النهائي.
وعليه، إذا أراد أن يستمر، أن بكون قويا داخليا قبل، في حالة بن بيلا على الأقل، حتى لا يجد نفسه في الجهة الأخرى الأكثر يأسا وألما، والتي لا نهاية لها إلا التمادي في الجنون حتى فقدان الرغبة الحياة. عندما أدخِل الرايس حميمد إلى الزنزانة المظلمة، لم تكن أمامه أية فرصة للتفكير في شيء آخر إلا الموت والجنون والانتحار. وعلى الرغم من أن الزنزانة كانت مسدودة بإحكام، حدث شيء غريب.
بعد أن رُمِي في عمقها. بدأ يتأمل الظلمة، ويتحسس الأشياء بحاسته الجديدة المخزنة التي تشترك فيها كل الحواس مجتمعة، إضافة إلى التخمين والتحسس المرهف للأصوات. سمع فجأة طنين ذبابة. في البداية لم يعره أي انتباه، لكنه سرعان ما استغرب وجودها في ذلك المكان المظلم؟ من أين جاءت؟
لم تكن الذبابة عادية على الأقل بالنسبة له. لأنها الكائن الوحيد الذي كان يحسسه بالحياة، وبأن الزنزانة المقرفة المعبرة عن الموت، كان بها شيء يشبه الحياة. توجه الرايس حميمد نحو الصوت. تساءل كيف دخلت الذبابة إلى عالمه؟ هل هي الصدفة أم أقدار الحياة.؟ لاحظ فجأة انه كلما حمحم أو تكلم، توقف طنينها وكأنها تستمع إلى انشغالاته وخوفه من القتل الغادر أو الانتهاء مجنونا. فجأة طرأت على رأسه فكرة، وهي أن يحادثها يوميا عن قسوة ما كان يحيط به. بالفعل لم يتأخر في فعل ذلك.
بدأ يتحدث إليها ويحكي لها عن حياته وأشجانه وما حدث له، وانشغالاته وخوفه، عن انقلاب 1965، تصمت وبمجرد سكوته وصمته، تعود إلى طنينها المتواتر لتثبت له أنها هناك وتستمع إليه بجدية. كانت الكائن الوحيد ألذي يصغي إليه بدون أن يكلفه ذلك جهدا أو خوفا ضافيا. لم يكن ينتظر منها إجابات. كان فقط بحاجة إلى كائن يستمع إلى محنته. وكلما جاؤوه بالأكل من ثقب الحائط، تطن الذبابة قليلا قبل أن تصمت حتى ينتهي من أكله. افترض أنها تقاسمه ظلمته وأكله حتى لا تموت جوعا.
كان الرايس حميمد في صغره يكره الذباب. يمارس الرياضة في مغنية، ويحب الكرة، ويرى في الذباب ملوثا للطبيعة. كان انشغاله في الزنزانة هو وضعه النفسي حتى لا يفقد توازنه ويختل نهائيا. وظل يحكي والذبابة تسمع. تنام عندما ينام، وتستيقظ معه أو قبله بقليل. واستطاع أن يقاوم بقوة وشراسة الجنون الذي فرض عليه طوال الشهور التي قضاها مع الذبابة التي تمناها، في البداية، أن تغادر المكان وتخرج ليستطيع النوم، وأصبح لاحقا يطلب من الله أن يطيل في عمرها ويبقيها ويحفظ روحها من أي تلف أو موت، وتظل هناك في المكان الذي اختارته. أصبح ينام أحيانا على رفرفة جناحيها عند رأسه. كانت مؤنسه الكبير.
قلت للرايس حميمد: لماذا لا تكتب حياتك في الزنزانة مروية إلى ذبابة، في عالم شديد القسوة والظلم؟ قال جملة هي عبارة عن تسامح وإذعان للأقدار: خل البئر بغطاه يا صاحبي، هكذا وما سلكناش؟ يا واسيني تتكلم بمنطق الذي لم تسرق حريته لكن لو أخذ منك نصف عمرك في السجن ستتغير علاقتك مع الأشياء لدرجة أن تتساءل ليس فقط عن الكتابة ولكن عن جدوى الحياة أصلا. كلما تذكرت أمر الذبابة، أشعر بحرقة كبيرة.
كيف يمكن تصور رئيس جمهورية، حارب على مدى سبع سنوات ونصف، آلة الاستعمار، وعاش في سجون الاستعمار يوم اقتحم البريد المركزي برفقة المناضل آيت أحمد، وسرقوا المال لتمويل الثورة التي كانت تتهيأ لخوض غمار ألم سيطول. ويلقى عليه القبض، فيهرب وينتقل إلى عمله النضالي قبل أن يتم تحويل الطائرة التي كانت تقله هو ورفاقه الخمسة ويقاد ثانية إلى المعتقل، يوضع في زنزانة بلا رقيب دولي ولا ضمير، وبلا محاكمة ولا ذنب ظاهر، كأنه سرق خزينة الدولة، أو كأنه أصبح خطرا عل استقرار البلاد التي خرجت للتو من حرب دموية خربت داخل الإنسان ودمرت يقينه بالحياة إلا بعد بدايات الاستقلال، لتعيدها الخيبات المتكررة والانقلابات والحرب الأهلية إلى الواجهة. وظل في سجون الاستعمار حتى اتفاقية إيفيان ووقف إطلاق النار، فيطلق سراحه.
وعندما استقلت البلاد نهائيا، وبدأت البلاد في تضميد جراحها، يجد نفسه من جديد في زنزانة الإخوة، المظلمة، لمدة خمس عشرة سنة، برفقة ذبابة كانت أرحم من البشر، جعلته يتحمل قسوة الأيام الأولى في المعتقل التي لولاها، كما يقول هو ومحاميته وزوجته لالّة زهرة رحمها الله، لانتهى إلى الجنون الأكيد. نحتاج اليوم إلى أن نرفع على شرفها تمثالا للحرية ونكتب تحته: الذبابة التي أنقذت الرايس حميمد من الجنون.
ربما كانت هذه الذبابة أفضل، في عطفها الغريزي، وأكثر إحساسا من بشر كل يوم يزيد عماهم وشرههم للسلطة، حتى ولو دمر ذلك الكراسي الرخامية المثبتة التي يجلسون عليها.