كتاب عربي 21

القطاع الطبي العسكري

1300x600
نشرت جريدة "المصري اليوم" حوارا في 28 يناير/ كانون الثاني الماضي مع اللواء إبراهيم عبد العاطي، الذي زعم أنه اخترع جهازا جديدا لكشف وعلاج "فيروس سي ومرض الإيدز"، ليعيد للأذهان مسألتين طبِّيتيْن هامّتيْن، إحداهما: اختراعه هذا، والثانية: إصدار الرئيس المؤقت عدلي منصور القانون رقم 74 لسنة 2013 في 14 يوليو 2013 بإنشاء كلية الطب العسكرية، وربما غاب النقاش حول هذا القانون لطبيعة الأحداث في ذلك الوقت.

كان التلفزيون الرسمي المصري قد نقل في أواخر فبراير/ شباط 2014 عن "المركز الإعلامي العسكري" مؤتمرا صحفيا عالميا للقوات المسلحة للإعلان عن جهاز الكشف عن الفيروسات، وهو المؤتمر الذي تم تقديم اللواء عبد العاطي فيه للحديث عن اختراعه الذي قال أن المخابرات الحربية "تبنت هذا الأمر منذ زمن سرا"، وذكر عبد العاطي أن مخترع جهاز الكشف عن الفيروسات "العميد أحمد أمين"، وتوالت ردود الأفعال على هذا الإعلان بين مروّج له وبين مكذّب، إلا أن المؤسسة العسكرية استمرت في ترويجها للجهاز وأعلنت أن موعد العمل به سيكون في آخر يونيو/ حزيران 2014، إلى أن جاء الموعد ولم يخرج الجهاز للنور، ولم تعتذر المؤسسة الأعرق في مصر عن المشروع بل أعلنت أنها ستؤجله، وذكر اللواء جمال الصيرفي مدير قطاع الخدمات الطبية في تصريحات صحفية 18 أغسطس/ آب 2014 أن "القيادة العامة للقوات المسلحة أمرت بتشكيل لجنة علمية لدراسة مدى أمان الجهاز المذكور، منها هيئة الرقابة النووية والإشعاعية والكلية الفنية العسكرية ومراكز السموم، وتم التوصل إلى أن الجهاز آمن والكبسولات آمنة ولكن اللجنة أوصت بضرورة أن يتم منح الجهاز فترة 6 أشهر للتأكد من فعاليته التامة وآثاره على المرضى الخاضعين للعلاج" إذًا فالجهاز آمن ولا داعي للاعتذار عن الترويج لتلك الفضيحة العلمية، ولا عن عدم خروجه للنور حتى الآن.

يمكن تفسير ذلك الحماس نحو الترويج للجهاز بما جرى في تلك الفترة من الترويج لمشروعات وهمية أو غير مدروسة، في ظل حمى "المشروعات القومية" بغرض الدعايا للنظام السياسي قبل أو بعد تشكّله، وإن كان هناك فارق بين الوعود الاقتصادية الزائفة، وبين الفضائح العلمية التي لا تداريها الوعود أبدا، لإمكان اختبار مدى صدق ما يجري الإعلان عنه.

المسألة الطبيّة الثانية هي إنشاء كلية الطب العسكرية، وهو أمر موجود في دول أخرى وليس جديدا على ثقافة المؤسسات العسكرية، بل ربما يصير مرغوبا لاحتياج المؤسسات العسكرية لتخصصات معينة ترتبط بطبيعة عملها كتخصص العظام أو الحروق أو الجروح والحالات المَرَضية المرتبطة بالحروب الكيميائية أو المرتبطة بظروف الطيران أو أعماق البحار، فكل تلك التخصصات ربما يبرع فيها الأطباء العاملون بالمؤسسة العسكرية؛ نظرا لشيوع ما يتعلق بها في نطاق عملهم، لكن التساؤلات المطروحة هي عن سبب ذلك التوجه؟ ومدى الحاجة إلى إنشاء كلية طب عسكرية؟ ومدى كفاءة العملية التعليمية في ظل الترويج لجهاز وهمي كجهاز "كشف وعلاج فيروس سي ومرض الإيدز"؟ وأخيرا عن مدى استيفاء الكلية الجديدة لشروط إنشاء كليات الطب كتوفر الأساتذة والمعامل والمستشفى التعليمي والوسائل التعليمية؟ وهو الأمر الذي نبهني إليه أحد الأطباء خاصة مع عدم وجود جثث للتشريح "بشكل قانوني" مما يدفع كليات خاصة لاقتراض الجثمان من جامعات حكومية وإعادتها مرة أخرى بعد الشرح "النظري للطلاب"، والتشريح لا بد أن يكون عمليا وهو ما أصبح غائبا عن كل الجامعات الحكومية والخاصة، والجثامين الموجودة الآن هي نفسها منذ 20 عاما، لعدم توفر جثث بشكل قانوني، فكيف ستتغلب الكلية الجديدة على تلك المعوقات؟.

الأمر المقلق في هذه المسألة غير متعلق بإنشاء الكلية من حيث المبدأ، بل من حيث الغاية؛ فالمؤسسة الأقوى في البلد تسعى بشكل لا مواربة فيه ولا خجل لبسط هيمنتها على كل قطاعات الدولة الإدارية والاقتصادية والمفاجئ كان دخولها إلى القطاع التعليمي بدءا بمدرسة بدر الدولية التي تم الإعلان عن الشروع في إنشائها في يونيو/ حزيران 2014 بتكلفة 90 مليون جنيه، ومرورا بكلية الطب العسكرية، وغير معلوم ما ستنتهي إليه تلك المغامرة، وربما يُفسَّر ذلك الدخول بالرغبة في توجيه بوصلة عقول الأجيال القادمة وبسط الهيمنة على آفاق الثقافة، بخلاف النفع المادي بالطبع، إذ نشرت تقارير صحفية أن مصروفات مدرسة الجيش بلغت 32 ألف جنيه.

لا تبدو هناك حاجة لضباط/ أطباء في ما يبدو لنا، إذ تكفي عملية التجنيد السنوية في سد أي عجز، كما أن وزارة الدفاع تعلن عن حاجتها لضباط متخصصين في المجالات التي تحتاجها، فتقوم بالوفاء باحتياجاتها في جميع المجالات بوسائل عديدة غير إنشاء الكليات، وعلى المستوى المهني والأكاديمي تقوم الأكاديمية الطبية العسكرية التي أُنشأت سنة 1979 بتوفير الدورات اللازمة لتأهيل الأطباء العاملين بقطاع الخدمات الطبية بالوزارة، وهي أمور تنفي ادعاءات الحاجة لإنشاء تلك الكلية.

مناقشة تلك الأمور نابع من الحرص على مؤسسة هامة وحيوية من الانحراف عن الدور الأساسي لها والانشغال بأمور ليست من صميم عملها، فتصل بها لحالة مزرية في طريقة إدارتها للشأن العام الأمر الذي يضر علاقتها بالمجتمع، وإذا أرادت الدخول في الاقتصاد فيكون ذلك من بوابة الوظيفة الأساسية كالصناعات الأمنية والالكترونية مثلا، أما تغيير عقائد المؤسسات فلا خير يأتي من ورائه في ما نعلم.