تَخترقُ المشهدَ السياسي الفرنسي توتراتٌ بالغةَ الأهمية بخصوص ما آلت إليه الحياة السياسية، والمستقبل الذي ينتظر مُكوناتها الحزبية، بعد أن غدا الفرنسيون على أبواب الانتخابات الرئاسية، المقرر تنظيمها شهري أبريل ومايو المقبلين ) 2017(. أما مصدرُ هذه التوترات فيكمن في التصاعد المتزايد لليمين المتطرف، أي الجبهة الوطنية"، بزعامة " مارين لوبين Marine Le Pen، التي خلفت والدها، وتجهدُ منذ سنوات من أجل الوصول بمناضلي حزبها وأنصارهم إلى " قصر الإليزيه". ففي آخر استطلاعات الرأي حصلت رئيسة " الجبهة الوطنية" على أكثر من 27% من أصوات المُقترِعين، متقدمةً بشكل واضح عن كل مرشحي اليمين واليسار. والحقيقة أن منذ الانتخاب الرئاسي لعام 2012 ، ومُنحنى " اليمين المتطرف " في تصاعد مستمر، تأكد ذلك في الانتخابات البلدية، والجهوية، وفي الانتخابات الأوروبية، حيث ظفرت " الجبهة الوطنية "، بشكل لافِت للانتباه، بما يفوق 24 مقعداً في البرلمان الأوروبي عام 2014.
لذلك، تتجه توقعات الطبقة السياسية الفرنسية إلى الجزم بأن " اليمين المتطرف" سيكون له وقع عميق على نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة، وأن فوزَه في الدور الأول أصبح من قبيل تحصيل حاصل، ما شكل ويشكل قلقاً للفرنسيين هو التساؤل عما سيُسفر عنه الدور الثاني، وكيف سيتصرف اليمين واليسار معا حُيال الزحف المحقق ل " الجبهة الوطنية" في اتجاه " قصر الإليزيه"؟. ثم هل بإمكان أحزاب اليمين واليسار إعادة تجميع قوتها، ورفع قُدراتها، لاجتياز الاستحقاق الرئاسي المقبل دون فتح المجال لولوج " النزعة الشعبوية المتطرفة" مؤسسةَ الرئاسة ، التي إن تحققت ستشكل واقعة لم يعرفها التاريخ السياسي الفرنسي على الإطلاق؟.
أتساءل مع القارئ الكريم عن الحيثيات الدّاعِمة لإمكانية تصّدر " اليمين المتطرف" نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة في فرنسا. فمن جهة، هناك مشهد حزبي موسوم بالهشاشة والانقسام، سواء في بيت اليمين ووسط اليمين، أو في صفّ الاشتراكيين واليسار عامة. حسبُنا الإشارة إلى اتهامات الفساد التي أضعفت عائلة اليمين، وأرهقت مرشحها " فرانسوا فيون"، الذي لا يُعرف على وجه اليقين مدى قدرته على الاستمرار في الحملة الانتخابية، وما هي حظوظ فوزه في حالة عدم انسحابه من السباق. ومن جهة ثانية، يقدم الاشتراكيون واليسار عموماً صورة غير مُشجعة على التفاؤل بنجاحهم في الاقتراع الرئاسي القادم، حيث يتنافس ثلاثة من قادتهم، عزَّ عليهم حتى الآن التقدم بشكل فعال وواضح في مشروع توحيد عائلتهم، والتوافق على الائتلاف، القادر على رصِّ صفهم، وضمان فوزهم في الرئاسيات المقبلة. لذلك، لا تبدو الصورة، كما أسلفنا الإشارة، واضحة بما يكفي لتوقع رجحان الكفة لغير صالح " اليمين المتطرف".
ومع أن أوضاع القوى المنافسة لليمين المتطرف، من يمين ووسط يمين ويسار، ليست مُشجعةً، وحالُها على قدر كبير من الضعف بما يخدم " الجبهة الوطنية"، فإن ثمة سياقاً أوروبياً ودولياً قد يمثل عامل دعم لقادة اليمين المتطرف في سباقهم الرئاسي المقبل. ففي فرنسا، سئم المواطنون خطاب النخب السياسية التقليدية، و لم يعودوا مكترثين بوعودهم الانتخابية، بعدما خبروا فشلهم في إعادة المناعة المطلوبة للاقتصاد ، والشغل، والتعليم، والشروط العامة للعيش، سواء على عهد رئيس " الحزب الجمهوري" " نيكولا ساركوزي") 2007 ـ 2012( ، أو خلال حكم الاشتراكي " فرانسوا هولاند" ) 2012 ـ 2017( . لذلك، يُتوقع أن يستفيد " اليمين المتطرف" من جزء من القاعدة الانتخابية الغاضِبة سواء على مرشح اليمين ووسط اليمين، أو على مرشح الاشتراكيين واليسار.ثم إن السياق الأوروبي والدولي يشهد بدوره تصاعدا ل " الشعبوية" Populisme بكافة صورها وألوانها، سواء في ما حصل من انتخابات في أقطار أوروبية أو ما هو قادم في القريب من الشهور والأعوام. ثم إن صعود المرشح الجمهوري " دونالد ترامب" في أكبر دولة في العالم، أي الولايات المتحدة، أعطى لنزعة " الشعبوية" دفعة جديدة، ستستفيد منها، دون شك، الكثير من الأحزاب والتنظيمات ذات التوجه العَقَدي المشابه.
لا تكمن قوة " اليمين المتطرف" الفرنسي في قُدرته على الإقناع، أو الدفاع عن برنامج انتخابي جذاب وقابل للتطبيق، بقدر ما تتجسد في استغلال فجوات خصومه السياسيين، واستثمار ضغط الأحداث والوقائع الحاصلة على الأرض، وفي صدارتها تلك الخاصة بالأمن والأمان والاستقرار العام. ففي فرنسا على سبيل المثال، فشل اليمين واليسار في الحدّ من مسلسل التفقير الناجم عن الانخراط في العولمة، وبرامجها الاقتصادية والمالية والتجارية، حيث ظلت معدلات البطالة مرتفعة وجاثمة على فئات واسعة من الشعب الفرنسي، كما لم تتحقق العدالة الجبائية، وضعفت مكانة الطبقة الوسطى، وتراجعت قُدراتها المعيشية، كما أصيبت الفئات الصغيرة بضربات في أوضاعها المهنية والمعيشية، كما هو حال " المزارعين"، وأصحاب وحدات الإنتاج الصغيرة..ناهيك عن واقع التهميش وضعف الإدماج الاجتماعي في قلب الحواضر الفرنسية وضواحيها.. وكلها معطيات واقعية شكلت وقوداً لدعم تصاعد خطاب اليمين المتطرف. وللتدليل على منهجية " اليمين المتطرف" الفرنسي في استغلال كل فجوات سياقه الداخلي والجهوي والدولي، نشير إلى ضرب " الجبهة الوطنية" على وَتَر التطرف والإرهاب بكل أشكاله، والدعوة إلى نوع من الانطواء على الذات، وإغلاق الحدود أمام القادمين من كل الآفاق، مع الحرص على تبديد قيمة التعدد الثقافي والإثني الذي يسم الهوية الفرنسية.
ومع ذلك، هناك زحف واضح لليمين المتطرف في اتجاه أهم مؤسسة من مؤسسات السيادة الفرنسية، أي قصر الإليزيه.. هل سينجح في ذلك؟. لا تبدو النتيجة مؤكدة وحتمية، لأن الفرنسيين وعلى الرغم من ضعفهم السياسي الراهن، وانقسامهم ، ما زال " اليمين المتطرف" خطاً أحمر بالنسبة إليهم، وكما فعلوا مع " جاك شيراك " حين التفوا حوله ودعموه للفوز ضد " لوبين" الأب، سيقومون بالسلوك نفسه مع خليفته " مارين لوبين"، حيث سيتضامنون لقطع الطريق أمامها.. هذه هي فرنسا العميقة.