أفكَار

هل خلق الله خلقه ثم توقف عن تصريف شؤونهم؟

مجازر حلب
على وقع الأحداث الدموية المؤلمة التي تعصف بمدن وحواضر عربية عديدة، تثور أسئلة قلقة يتداولها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، ويتناقلها رواد المنتديات الحوارية المختلفة.

تدور تلك الأسئلة حول طبيعة العلاقة بين الفعل الإلهي والفعل البشري، فإن كان الله ما زال قائما على تصريف شؤون خلقه، ولم يتركهم وشأنهم، فلماذا يسمح وهو العدل بوقوع كل هذه الجرائم والقتل وانتهاك حرمة الإنسان حسب أسئلة السائلين.

وتساءل أحدهم: لماذا يسكت الله على ظلم الظالمين ولا يتدخل مباشرة لنصرة المظلومين؟ وأردف آخر: إذا كان الله يحب أهل الإيمان والصلاح فلماذا يتركهم يتجرعون مرارة العذاب والاضطهاد والإذلال؟

خالق الخلق ومدبر شؤونهم

طبقا للداعية والباحث الشرعي الأردني، الدكتور أحمد الصوي فإن الله سبحانه هو الذي خلق الخلق، وهو القائم على تدبير شؤونهم، وهو الذي يمدهم بأسباب الحياة والبقاء لآجالهم المحتومة، فالخلق كلهم يتقلبون بين نعمتي الإيجاد والإمداد.

وقال الصوي لـ"عربي21" خلال مناقشته لتلك الأسئلة: لو أن الله سبحانه توقف عن إمداد الخلق بأسباب الحياة والبقاء، فإن ذلك يعني فناء الخلق لأنهم لا يقومون إلا بمدده ومعونته، وهذا من تجليات اسم الله القيوم، فهو سبحانه القائم بنفسه والمقيم لغيره.

وأضاف الصوي: "أقام الله الكون والخلق على قوانين ثابتة، وسنن كونية لا تتخلف ولا تخرق، إلا في حالات استثنائية نادرة الوقوع (ما يندرج تحت السنة الخارقة)، فمن يفهم تلك السنن والقوانين فإنه يسهل عليه فهم ما يجري ويدور من أحداث ووقائع".

وتابع الصوي: "إن تلك السنن والقوانين لا تحابي أحدا، وهي تجري على الأنبياء والصالحين، وقد تضمنت السيرة النبوية وقائع أظهرت كيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام راعى تلك السنن واعتبرها، وأقام حركته وفقها".

وضرب الصوي مثلا بالهجرة النبوية، وكيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بكل الأسباب الممكنة له، وبعد أن أعد العدة المقدور عليها، فوض أمره إلى الله واتكل عليه، فكان حفظ الله له بعد أن قام بما أمره سبحانه من اتخاذ الأسباب الميسورة له.

وبيّن الصوي أن جملة السنن الجارية تحكم حركة البشر جميعا، وهي تنطبق على المسلمين كما تنطبق على غيرهم، فكما أن المسلم فهم قانون السنن على المستوى الشخصي جيدا، بأنه لا يطلب الرزق وهو جالس في بيته، ولا يأمل أن يكون له ذرية وأولاد إلا بالزواج، فإن على المسلم أن يفقه حركة العمران البشري بحسب السنن والقوانين الحاكمة لها.

كيف نفهم الحكمة الإلهية فيما يجري؟

من جانبه أوضح رئيس قسم الشريعة في جامعة البلقاء الأردنية، الدكتور محمد الطرايرة أن تفهم الحكمة الإلهية الكامنة وراء تلك الأحداث تعين على فهم ما يجري على وجهه الصحيح ضمن سياقاته الزمانية والمكانية.

ولفت الطرايرة إلى أن تحديد الفئة المخاطبة يعين كثيرا على مناقشة ذلك النمط من الأسئلة، مفرقا بين أسئلة يثيرها ملاحدة ولادينيون، وبين أسئلة يثيرها مسلمون على سبيل الاستشكال والاستيضاح، فالملحد واللاديني بحسب نسقه الفكري لا يقيم وزنا للعقائد الدينية، فهو مشكك بكل ما هو ديني على طول الخط، أما استشكالات المؤمنين فلها ما يناسبها من الأجوبة والمناقشات.

وجوابا عن سؤال "عربي21": هل يقع في ملك الله ما لا يرضاه ويبغضه بإذنه، وما الحكمة من وراء ذلك؟ قال الطرايرة: "لا بد في هذا المقام من التفريق بين رضاه سبحانه عن الفعل وإذنه به، فمن الطبيعي أن يقع في ملك الله ما لا يحبه وما لا يرضاه، وإلا فلو أن الله أجبر خلقه وأكرههم على فعل ما يحبه ويرضاه، فإنهم حينها يفقدون صفة الاختيار، التي بها تم التكليف أصلا".

وأضاف الطرايرة: "لو أن الله أدار كونه كما يتوهم بعضهم بأن لا يسمح بوقوع ما يكرهه ويبغضه، لما قام الخلق أصلا، ولكان جنس الخلق البشري كجنس الملائكة الذين لا يملكون الاختيار، فهم مسخرون ومجبرون على أعمال، لا اختيار لهم فيها، ولو منع البشر من القيام بما يكرهه ويبغضه لكانوا بالتأكيد جنسا آخر على خلاف ما هم عليه الآن".

ولفت الطرايرة إلى أن حكمة الله في خلقه قامت على الابتلاء، فهو سبحانه خالق الخلق، واقتضت حكمته إقامة نظام الخلق على الاختيار، فالبشر يملكون حرية تحديد مساراتهم في هذه الدنيا، فبحسب اختيارهم تأتي النتائج، التي تدور كلها في دائرة ما قدره الله وقضاه. 

وفي السياق ذاته أكدّ الباحث الشرعي السعودي، فهد الغفيلي أن إدراك حكمة الله في خلقه يدور على "تفهم الغاية من خلق الخلق، فالبشر مخلوقون لمعرفة الله وعبادته، والله منحهم حرية اختيار مسارهم، فمبدأ الثواب والعقاب المنبثق عن أصل التكليف الإلهي، لا يكون إلا بأن تكون للبشر اختياراتهم الحرة".

وأوضح الغفيلي لـ"عربي21" أن مقتضى ذلك جريان نظام الخلق وفق تلك القوانين والسنن بصرامتها وثباتها، والتي يتوهم معها أصحاب الفكر المادي أنها قائمة بذاتها، وأنه لا يد لله في تصريفها وتدبير شؤونها، ولو فكر الناس ببديل عن نظام الخلق الذي أقامه الله لأعجزهم إيجاد بدائل تحل محل ما قدره الله وقضاه.

أهمية العقلية السننية

وجوابا عن السؤال الاستشكالي القلق: لماذا يسمح الله أن يقع في ملكه ما يبغضه ويكرهه؟ ولماذا يسمح الله بوقوع هذا الظلم والعدوان على المسلمين وهم أولياؤه وأحبابه؟ قال الباحث الشرعي الأردني المهتم بالدراسات النهضوية، إبراهيم العسعس: "من أراد أن يفهم ذلك فعليه أن يربط حركة الوجود بأسرها بحركة أسماء الله الحسنى وتجلياتها في هذا الوجود".

وشرح العسعس لـ"عربي21" مراده بأن على المسلمين أن يدركوا أنهم ليسوا وحدهم في هذا الوجود، وأن حركة أسماء الله وتجلياتها في الوجود لا تتعلق بالمسلمين وحدهم، وحتى نفهم حدثا ما أو مصيبة معينة، فلا ينبغي فصلها عن تجليات أسماء الله الحسنى.

وأضاف العسعس: "إن أسماء الله الحسنى (التي ينبثق عنها الفعل الإلهي) لا تعمل منفصلة، فلا يصح أن نتوقع الرحمة دون أن ندرك أن العدل يقوم بعمله، وأن الإطار الذي تتحرك الأسماء فيه هو الحكمة".

وجوابا عن تعجب بعض المسلمين وغيرهم من عدم تدخل الله لإنقاذهم من الظلم والاضطهاد الواقع لهم، اعتبر العسعس أن ثمة خللا في استدعاء أسماء اللطيف والرحيم.. وغيرها من الأسماء، في حين أن الصورة الكبيرة تعمل فيها أيضا أسماء: الحكيم والعدل والقهار والعزيز والذي لا يحدث في ملكه إلا ما يشاء.

وخلص العسعس إلى القول: "شاء الله أن تجري أحداث الكون بما فيها حركة البشر تحت قوانين صارمة سماها القرآن السنن، وتلك القوانين لا تتخلف ولا تحابي أحدا على حساب أحد فهي لا تحابي مسلما على حساب كافر، ولو صح ذلك لحابت محمدا حبيب رب العالمين في غزوة أحد، لكنهم لما خالفوا السنن جرت عليهم قوانين الحياة".

ووفقا للعسعس فإن القرآن الكريم "حدد الموضوع وأجاب عن كل التساؤلات التي يمكن أن يطرحها المتحيرون المستاؤون من (صمت) السماء كما يظنون، لكن الأمر في حقيقته ليس كذلك لأن الله حدد السنن والقوانين، وقال للخلق: أقيموا الحياة وفق هذه السنن لا بإهمالها والتنكر لها، كما ذكر سبحانه في قوله (قل هو من عند أنفسكم)".