كتاب عربي 21

الظُلم في تونس يُجهّز الشرارة الثانية

1300x600
بِرَنّة هاتف يتيمة قد تَجد نفسك في لمح البصر خلف القضبان، دون تهمة ولا جناية ولا جنحة إلا المطالبةَ بحقك أو باحترام القانون هذا قبل أن تمُرّ بأقسام الإيقاف فتبدأ فصول الإهانة لكما وصفعا وسبا للجلالة ونيلا من الأعراض والحرمات. هذا حال الفقير أو "الزواّلي" بتعبير أهل تونس، ممن لا يملك في عائلته عضوا في منظومة العصابات كبيرا كان أو صغيرا ليخرجه من براثن دولة البوليس التي أورثها زبانية "بن علي" للعصابة الجديدة المتحكمة في رقاب التونسيين من رجال الدولة العميقة.

فكيف يمكن لحارس سياحي بسيط من تونس العميقة الفقيرة أن يجد نفسه في حالة إيقاف فقط لأن نائبة ببرلمان الثورة المضادة اتصلت بالعصابة لتضع الرجل الفقير بين القضبان وقد ضبطها في وضع مريب أخلاقيا وقانونيا كما نقلت آلاف مواقع التواصل الاجتماعي التونسية. لا تتمثل خطورة الجريمة في الجانب الجنسي المتصل بها بل أخطر ما فيها غلبة الظلم وانتصاره وانتشار الاحتقار وتفشي استغلال النفوذ وقهر المواطن بشكل يؤكد اتجاه البلاد مع وضعها الاقتصادي البائس نحو الانفجار الثاني.

في تونس اليوم يمكنك أن تموت بطلق ناري لمجرد الاشتباه بك على الحدود أو في أحد المعابر ونقاط التفتيش. كما يمكن أن يدهسك أحد أبناء القضاة والمتنفذين فتموت على الطريق ويتدخل القاضي بشبكة العصابات الممتدة فيمنع من إيقاف ابنه كما حدث في سيدي بوزيد هذا الأسبوع. من المحتمل أيضا أن تدوسك سيارة أحد الأمنيين فترديك قتيلا مثلما حدث في جزيرة جربة بالأمس. 

الكارثة لا تقتصر على المواطن المسكين وهو يسام أنواع الفقر والإذلال فهذا قوته اليومي بعد أن دمرت العصابات الاقتصاد ونهبت المال العام وباعت ثروات البلاد لشركات السطو العالمية العابرة للقارات بل كل الكارثة في أن هذه الجرائم الرمزية تمثل اكثر أنواع الوقود قابلية للاشتعال لأنها جرائم لا يُحاسب مرتكبوها ولا يعاقبون لسببين أساسيين. فإما أنهم فوق القانون بسبب انتمائهم السياسي والطبقي أو لأنهم هم القانون نفسه تمثيلا وصياغة وتنفيذا.

مدينة "بنقردان" أحد جيوب الفقر والتهميش بالجنوب الشرقي وبوابة ليبيا إلى تونس تعيش هذه الأيام على وقع عاصفة من الاحتجاجات الاجتماعية الخطيرة التي تنذر بشتاء ساخن جدا. أما سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية فإن حالها لا يختلف عن حال القصرين المجاورة التي فقدت ما يقارب عشرين من أبنائها من شهداء إرهاب الفساد في البنية التحتية للدولة بعد الحادث المريع الذي جدّ مؤخرا بالجهة. 

الانحدار الأخلاقي السحيق للنظام السياسي التونسي وللمجتمع سجّل درجات مرعبة وبلغ مستويات متقدمة وخطيرة جدا على التماسك الاجتماعي وعلى الوحدة الداخلية للبناء الأخلاقي بشكل بلغ هرم الدولة وقواها التنفيذية.

فبالأمس القريب سرّبت العصابة شريطا مسجلا انتشر كالنار في الهشيم يظهر فيه جماعة الحزب الحاكم سكارى يرقصون على نخب الانقلاب الرئاسي خلال الانتخابات المزورة السابقة وبينهم رئيس الحكومة الجديد والموظف السابق بالسفارة الأمريكية وهو يغني بألفاظ سوقية وضيعة قادحا في شرف والدة الرئيس السابق ـ وهي متوفاة ـ كاشفا عن انحدار أخلاقي نادر.

صحيح أن كل هذه الحوادث تشكل قطرات صغيرة في محيط الفساد الكبير الذي تسبح عليه البلاد بعد استتباب الحال لمنظومة الاستبداد من جديد رغم كل المساحيق التي تحاول الأذرع الإعلامية للنظام وضعها وإيهام الخارج خاصة بأن تونس تجربة فريدة في السلم الاجتماعي.

لكن مركز الخطر لا يكمن في ضحايا جرائم النظام الجديد سواء كانت جرائم أخلاقية رمزية أو فعلية مادية على خطورتها بل هو يكمن في مستويين.

يتمثل المستوى الأول في قابلية هذه القطرات الصغيرة إلى التحول السريع والانصهار في موجات ضخمة وفي طوفان كبير قد يحصد الأخضر واليابس مثلما حدث يوم 17 ديسمبر كانون الأول مع الشهيد محمد البوعزيزي. أي أن نماذج الانحدار الأخلاقي والظلم الاجتماعي والاحتقار والإهانة هي أكثر أنواع الوقود قابلية للاشتعال خاصة في الظرف التونسي المتشنج اليوم حيث لا ينتظر الانفجارُ الكبير إلا الشرارةَ الثانية لينطلق.

أما المستوى الثاني الذي لا يقل خطورة عن المستوى الأول فيتمثل في ما تخلقه حالات الظلم الفردي هذه من موجات ارتدادية جماعية صامتة هي المحرك الأساسي لوعي التطرف والإرهاب الذي يقتات عليه فكر العنف والتكفير واستهداف الدولة. حالات الظلم الفردي والجماعي وحالات الاحتقار والتهميش هي الأرضية الصلبة التي عليها تتأسس قابلية الشباب النفسية للانخراط في جماعات الموت والمجموعات الإرهابية المتحالفة معها. فالإرهاب في شكله الطبيعي لا الصناعي هو ردّ فعل مرضي ومتطرف على أنساق سلوكية ومجتمعية مركزها غياب الدولة وسيادة قانون الغاب بما هو تسلط القوي على الضعيف والفقير على الغني والقادر على العاجز. 

لا مهرب من تطبيق القانون لمن أراد السلامة لنفسه ولمنصبه ولكرسيّه الوثير، سواء أكان الكرسيّ برلمانيا أو وزاريا أو رئاسيا؛ لأن تفعيل القوانين الحافظة لسلامة الفرد والمجموعة بقطع النظر عن الانتماء الطبقي والجهوي والسياسي هو المخرج الوحيد من الطوفان القادم ومن انتشار مجموعات الموت التي لا تنتظر إلا الشرارة القادمة. رحم الله ابن خلدون.