أطلقت البنوك المركزية في العالم العنان لسياساتها التوسعية منذ فترة، خصوصا تلك التي ما زالت تواجه صعوبات في الخروج من الكساد الذي أعقب الأزمة المالية العالمية، مثل الصين واليابان ومنطقة اليورو.
الهدف الأساس من تلك السياسات هو مكافحة الاتجاهات الانكماشية للأسعار، وتحفيز الطلب الكلي المحلي، وبالتبعية الطلب الخارجي من خلال العملات الضعيفة نسبيا.
منذ بداية الأزمة المالية العالمية، كانت هناك تحذيرات من احتمالات نشوب حرب للعملات مع اتجاه الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا والدول الناشئة للضغط على عملاتها نحو الانخفاض، لكن العالم نجح في إطار اجتماعات مجموعة العشرين في تجنب إشعال مثل هذه الحرب في أوج الأزمة، وقد مرت ضغوط حرب العملات بسلام بإعلان قادة العالم أنهم تحت أي ظرف من الظروف لن يلجأوا إلى تحقيق مكاسب في النمو على حساب شركائهم التجاريين من خلال اللجوء إلى خفض قيمة عملاتهم.
استطاع الاقتصاد الأمريكي من خلال سياساته المتسقة والمستمرة تعزيز تعافيه من الأزمة، بينما لم تسر الأمور على هذه النحو في باقي جوانب الاقتصاد العالمي. أخيرا أخذت اقتصادات الدول الصناعية في تكثيف استخدام السياسات النقدية التوسعية التي تتسبب بالتبعية في تراجع قيم عملاتها. ولعوامل عديدة غضت الولايات المتحدة بصرها عن تراجع قيمة الرينمنبي الصيني. كذلك سمحت لرئيس الوزراء الياباني بتطبيق سياساته المعروفة باسم "آبينوميكس" التي بدأها في 2013 الهادفة إلى رفع معدلات التضخم ودعم مستويات الطلب الكلي، الذي يعد الين الضعيف أحد الأركان الأساسية فيها، رغبة منها في السماح للاقتصاد الياباني أن يقف على قدميه ويقاوم الكساد الذي يعانيه منذ فترة طويلة.
غير أنه ترتب على النمو غير المتوازن في الاقتصاد العالمي تصاعد قيمة الدولار نظرا لزيادة الطلب عليه عالميا باعتباره الملجأ الآمن في ظل هذه الظروف، الأمر الذي بدأ يهدد تنافسية الاقتصاد الأمريكي، خصوصا مع اتجاه الدول الصناعية الأخرى إلى خفض قيمة عملاتها بالنسبة للدولار، وعلى ما يبدو أن العالم يواجه اليوم موجات تنافسية في خفض قيمة العملات لأغراض تجارية بحتة، بهدف دعم مستويات الطلب الكلي والنمو. غير أنه على المستوى العالمي، تعد هذه لعبة نتيجتها صفرية. بمعنى أن المكاسب التنافسية التي يحققها اقتصاد ما تكون على حساب الاقتصادات الأخرى في العالم.
لعل تجربة العالم في التنافس على تخفيض قيمة العملات، في فترة ما بين الحربين، كانت سيئة للغاية، ذلك أن مكاسب النمو التي تحققها دولة ما بتشجيع صادراتها، تؤدي إلى خفض النمو في الدول التي تتراجع صادراتها، فيقل الطلب الكلي في تلك الدول، وتنخفض مستويات الدخول فيها، فيقل الطلب المحلي، ومن ثم الواردات من الخارج التي هي أساسا صادرات الدول التي قامت بخفض قيمة عملاتها. أي أن النتيجة الحتمية للتنافس على تخفيض قيمة العملات هي أن النمو في جميع الدول ينخفض. لذلك تعرف هذه السياسات بسياسات "إفقار الجار".
أخيرا، عاد شبح حرب العملات إلى الواجهة مرة أخرى مع بدء ارتفاع قيمة الين في الربع الأول من هذا العام الذي مثل انتكاسة للسياسات التوسعية التي ينتهجها بنك اليابان المركزي، وأخذت الضغوط على الشركات اليابانية في التزايد، مع تراجع مبيعاتها ومستويات أرباحها، بصفة خاصة صناعة السيارات، وفي مواجهة هذه الضغوط أعلن بنك اليابان المركزي نيته شراء عملات أجنبية على النحو الذي يخفض من قيمة الين لمساعدة الشركات اليابانية.
أثار هذا الإعلان غضبا واسعا في الولايات المتحدة التي تواجه وضعا اقتصاديا مختلفا، فالضغوط التضخمية أخذت في التزايد نسبيا، والاحتياطي الفيدرالي يستعد لكي يقوم برفع أسعار الفائدة مرة أخرى، الذي ربما يبدو أنه إجراء غير مناسب في ظل هذه الظروف، حيث من الممكن أن تترتب عليه آثار معاكسة في النمو.
لذلك لم يكن من المستغرب أن نرى تغيرا في موقف الولايات المتحدة، التي أصبحت تنظر إلى الين المنخفض على أنه يمثل عبئا على الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحالي. اليوم توجه اتحادات المصدرين ونقابات العمال في الولايات المتحدة أصابع الاتهام إلى اليابان والصين وكوريا الجنوبية بأن سياسات معدل الصرف الخاصة بها هي المسؤولة عن تراجع النمو في الوظائف وزيادة معدلات الاستغناء عن العمال الأمريكيين، وتراجع النشاط الصناعي في الكثير من قطاعاته، أو باختصار تصدر البطالة إلى الولايات المتحدة من خلال عملاتها المنخفضة.
لقد أضحت مواجهة التلاعب بالعملات أحد المواد الأساسية في دعايات انتخابات الرئاسة الأمريكية، على سبيل المثال أشارت هيلاري كلينتون إلى أنها ستواجه التلاعب بالعملات، أما منافسها دونالد ترامب فقد كان أكثر جرأة بتهديده بفرض تعريفة جمركية بنسبة 45 في المائة على الواردات الصينية لمواجهة تلاعب السلطات الصينية في قيمة الرينمنبي. وبغض النظر عن مدى قدرته على تنفيذ هذا التهديد، فإن ذلك يعكس مدى قلق أمريكا من تصرفات شركائها التجاريين.
الأسبوع الماضي حذر وزير الخزانة الأمريكي جاكوب لو نظراءه في الدول الصناعية من التسابق على تخفيض العملات لأنه من الممكن أن يشعل حربا للعملات ويؤثر سلبا في النمو العالمي. لذلك تم التركيز في اجتماع وزراء مالية مجموعة الدول السبع الكبار على التلاعب بمعدلات صرف العملات، ولخطورة مثل هذا السيناريو المرعب اقتصاديا، فقد أعلن وزراء المالية في اجتماعهم هذا الأسبوع عزمهم استخدام جميع أدوات السياسة النقدية والمالية وأي إجراءات هيكلية أخرى للتعامل مع هذا الخطر وعدم استهداف معدلات الصرف كوسيلة للضغط على قيم العملات.
من جانبه، أكد وزير المالية الياباني عدم تردده في مواجهة أي تحركات مضاربية على الين يمكن أن تؤثر سلبا في الصادرات اليابانية، لكن الولايات المتحدة ترى أن ارتفاع الين الأخير، وإن كان يضر بالمصدرين، لكنه لا يبرر التدخل في الأسواق للضغط على قيمة الين. بينما حذر المراقبون من أن أي تحرك ياباني في هذا الاتجاه سيضر بالعلاقات التجارية بين البلدين، فضلا عن تأثيره السلبي في النمو الاقتصادي العالمي. فهل نشهد عودة الضغوط نحو حرب جديدة للعملات في العالم؟ هذا ما ستجيب عنه تحركات صانعي السياسة في الدول الصناعية في الأشهر المقبلة.
عن صحيفة الاقتصادية السعودية