كتاب عربي 21

"نساءُ المتعة" و نصيبُ العرب

1300x600
في تداعيات أخيرة لواحد من أكثر ملفات الحروب حساسية وخطورة من الناحية الأخلاقية والحضارية الإنسانية توصّلت كوريا الجنوبية واليابان مؤخرا إلى اتفاق هام يُنهي حالة الخلاف التاريخي بين البلدين حول ما سُمّي في الإعلام الرسمي بملف "نساء المتعة". القضية تعود في طور نشأتها إلى مرحلة الاحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية خلال الفترة التي امتدت بين سنتي 1910 و 1945 حيث أنشأ الجيش الإمبراطوري الياباني هناك بيوتا للدعارة وأرغم ما يزيد عن مائتي ألف امرأة من كوريا الجنوبية وكذلك من الصين ومن إندونيسيا على العمل كرها في هذه البيوت.  

كثيرة جدا هي العناصر السياقية الدولية التي تتقاطع في هذا الملف وتُجدد الحسم فيه اليوم وأهمه وقوف الإمبراطورية الأمريكية وراء هذه المبادرة وضغطها الكبير لنزع أشواك الخلافات بين كوريا واليابان طريقا إلى توحيد القوى الاقتصادية الأسيوية استعدادا لمواجهة الصعود الصيني في المنطقة  واحتمال الدخول في مواجهة عسكرية مستقبلية معه بأدوات محلية. 

الحدث ككل الأحداث الأخرى يمثل عندنا نقطة انطلاق موضوعية لقراءة ظواهر مشابهة في المنطقة العربية وهي ظواهر على قدر كبير من الخطورة لكنها تتميز في الحالة العربية بوقوعها تحت ستار كثيف من السرية ومن المحرمات التي تنضوي تحت دوائر المسكوت عنه لحساسيتها الأخلاقية والاجتماعية.
ثلاثة مرتكزات تحليلية تؤسس لهذه المقاربة المختصرة للتوظيف الجنسي استعماريا وتقوم مقام المسلمات البدائية:

أولها هو اعتبار الفعل الاستعماري فعلا متوحشا في أصل مولده هدفه الأول سلب الحرية وسلب الكرامة. 

ثانيها إقرار بأن الفعل الاستعماري بما هو فعل متوحش يستهدف الجسد الأنثوي ـ والذكوري ـ المستعمَر بما هو مدخل للإذلال والتركيع وكسر الروح.

ثالثا : كما يتلذذ الفعل الاستعماري المتوحش بالثروة والسلطة والسيطرة يتلذذ أيضا بالجسد بما هو جزء من الغنيمة.

كتب التاريخ وشهادات الأحياء والأموات ممّن عايشوا وصاحبوا الفعلين الاستعماريّ والاستبداديّ الممتدّين على طول المنطقة العربية يكتشف بوضوح أن الجنس ومركزية الاستغلال الجنسي كفعل للإذلال كانا جوهرا من جوهر التنفيذ الاستعماري نفسه. وهو تنفيذ لا يكتفي بالإنجاز المادي والجسدي المباشر من اغتصاب واعتداء وتمثيل فردي أو جماعي بل يتعداه إلى خلق الرمزية المصاحبة لهذا الفعل في المخيال وفي الوعي. اغتصاب النساء والتمتع بهنّ وهتك أعراض الرجال إنما هو في الحقيقة الوجه الآخر لاغتصاب الأوطان. فكما تُدنّس الأوطان وتنتهك حدودها وحرماتها تدنس الأعراض والحرمات بما هي الجزء الحي الأغلى والأنفَسُ  من هذه الأوطان.  

في العراق مثلا عرفت سنة 2006 في "قضاء المحمودية" ببغداد حادثة هي الأكثر رمزية عن هذا الفعل وتمثلت في واحدة من أبشع الجرائم الجنسية التي قام بها الفعل الاستعماري الذكوري حيث لم يكتف الجنود الغزاة باغتصاب الطفلة "عبير قاسم الجنابي" بل قاموا بقتل كافة أفراد عائلتها بما فيهم أخوها الأصغر ووالداها بعد أن تداولوا على اغتصابها ثم إحراق جثتها حرقا. 

اليوم يمثل اغتصاب النساء في سوريا من قبل جيش النظام الطائفي وفرق الموت التابعة لحزب الله ومجموع الكتائب الإيرانية الغازية واحدة من أهم الوسائل التي يسعى عبرها النظام الاستبدادي- بما هو وكيل لنظام دولي أكبر- إلى الحاق أقصى درجات الأذى في الوعي المقاوِم من أجل تدمير خلاياه الحية وذلك في اتجاهين:

أولا: خلقُ العقدة النفسية الحضارية للمنهزم مثلما فعل الجيش الأحمر بعد سقوط هتلر واغتصاب ملايين الألمانيات في واحدة من أبشع العمليات الانتقامية همجية في التاريخ المعاصر هدفها التلذذ المرَضي بالنصر الزائف. ثانيا: منع الفعل المقاوِم من النهوض وهو ردّ فعل سلوكي مصاحب لحالة المغتصَب بعد الاغتصاب حيث يشعر دائما بالدونية والانكسار أمام المجرم الغاصب والمغتصب. 

حالات التمتع بالغنيمة هي واحدة من أعلى مراتب التعبير عن وحشية الاستعمار بما هو خالق أساسي للإرهاب وللعنف والتطرف وهي فعل مصاحب للغزو والاحتلال والتدخل مهما كان نوعه ومصدره. وهي كذلك الوجه الذي يكشف الطبيعة الحقيقية للفعل الاحتلالي الذي يسعى دوما إلى تكثيف الأصباغ والمساحيق التي تغطي الطبيعة الوحشية لفعله الهمجي مثل أقنعة "نشر المدنية والتحضر" التي صاحبت الموجات الاستعمارية الأوروبية للمنطقة العربية وإفريقيا خلال القرون الماضية أو عبر قناع "التدخل الإنساني" و"حماية الأقليات" و"نشر الديمقراطية" خلال مطلع هذا القرن أو بحجة "محاربة الإرهاب"  التي هي في الحقيقة آخر الذرائع الاستعمارية للغزو والاحتلال وآخر الأقنعة التي تخفي أرقى الأفعال همجية في التاريخ. 

بل إن حالة الفعل الاستعماري الجنسي هي الخيط الذي يوحّد التوحش الصناعي بما هو امتداد مباشر وطبيعي للفعل الاستبدادي من جهة أولى وللفعل الاستعماري من جهة ثانية كما هو بيّن في الحالة السورية حيث يتناغم السلوك الجنسي بما هو فعل عدواني بين النظام السوري أولا وجحافل الغزاة ثانيا وتنظيم "داعش" الإرهابي ثالثا. 

إن تفعيل التدمير الحضاري لا يقتصر على القصف والتخريب والقتل بل يتجاوزهما إلى أعمق الأفعال تأثيرا في الإنسان وذلك على مرحلتين. تتمثل الأولى في تحقيق فعل الإهانة والإذلال أي الاعتداء الجنسي نفسه ثم تأتي المرحلة الثانية وتتمثل في إنجاز الأخطر منه وهو التعويد على الإذلال بشكل ينزع كل الشروط التي تدفع نحو خلق شروط إمكان المقاومة. 

نزع شروط ولادة المقاومة هي المرحلة النهائية لتداعيات فعل الاغتصاب الحضاري والمتمثلة في نشر ثقافة الانهزام وجعل الوعي به مقتصرا على تعبيرات ثقافية بائسة عن صورة الضحية ولا تتجاوزها إلى الردّ المادي السويّ والصارم بشكل يمنع تجدد فعل الإهانة نفسه.  

فليست ملاحقة الصهيونية وكتائب الموت فيها لرموز النظام النازي وتصفيتهم في حالات كثيرة إلا تجاوزا لصورة الضحية خلال الحرب الثانية نحو تفعيل الشروط المادية التي تمنع تجدد الفعل النازي في التاريخ مستقبلا. 

كثيرة جدا هي المحاور التي يتحرك عليها ملف المتعة والتمتع الجنسي في السياق العربي الحالي. كذبة "جهاد النكاح" مثلا صنعتها الأذرع الإعلامية "لنظام الملالي" في طهران بعد أن أنجزها فرع اللسانيات في شعبة المخابرات الإيرانية وأبواقها العربية لشيطنة معارضي الأسد وطعن مهد الربيع العربي تونس في نقاء ثورته. 

هذه الكذبة الإعلامية الكبرى كانت ملائمة لطبيعة المخيال العربي في تصوره للمسألة الجنسية من ناحية وهي متفقة من ناحية أخرى مع الخطاب الاستشراقي الكولونيالي الذي يرى في العنصر العربي والشرقي موضوعا قديما للشهوة والتلذذ. 

العنصر الجنسي كان رأس الحربة في خطاب الثورة المضادة من أجل استباق الجرائم الجنسية التي تصاحب فعلين متلازمين في الحالة العربية: الفعل القمعي أي ذلك المرتبط بقوات النظام من ناحية والفعل الاستعماري المصاحب لجحافل الغزاة من ناحية ثانية. 

الحالة العربية اليوم فريدة في التاريخ المعاصر حيث لا يقتصر فعل الإهانة والإذلال على الفاعل الاستعماري بل يتجاوزه إلى الفاعل الاستبدادي بما هو وكيل رسمي له فصور "أبو غريب" مثلا بما مثلته من شاهد على الاعتداء الجسدي والجنسي على الإنسان العربي المقاوم- بشكل يهدف إلى الكسر النفسي والتحطيم الجسدي والمعنوي للإنسان-  تتجدد بشكل يومي في العراق وسوريا وغيرها من مزارع الموت العربية. 

فعلُ الإذلال والإهانة وتحطيم الجسد والروح وتدمير حميمية الإنسان هي فعل ملازم للسلوك الاستبدادي والاستعماري الهمجي الذي عبرت عنه جحافل الغزاة في المنطقة العربية منذ قرون وإلى اليوم مع الغزو الفارسي والروسي الجديد للمشرق العربي.

هذا الفعل هو الرافد الأساسي والممول الأول للعنف والتطرف و بما هو- في صورته الطبيعية لا الصناعية الاستخباراتية- ردّة فعل غير سويّة عن أقدم جرائم الإنسان ضد الإنسان وأكثرها وضاعة وسقوطا.