قضايا وآراء

دون كيشوت لم يمت بعد

1300x600
لم يكن دون كيشوت رجلا مجنونا أو حتى نصف مجنون كما يتبادر إلي الذهن في القراءة المباشرة لرواية سارفانتس الممتعة؛ بل كان دون كيشوت فارسا نبيلا كما وصفه كاتب الرواية ولكنه فارسا لم يجد ميدانا فصنع لنفسه في ذهنه ميدانا باتساع الأرض كلها؛ فقد قرر وهو في الخمسين من عمره تخليص العالم من شروره هو وفرسه وتابعه.

عندما كان يقاتل الخراف بعدما أقنع نفسه أنه جيش جرار من الأشرار، وعندما كان يضرب بسيفه طواحين الهواء على أنها شياطين الشر الهائلة؛ كان يحقق حلمه الذي حاصره تماما من قراءاته لبطولات الفرسان.

ولم يكن دون كيشوت مجنونا كما أظن ولكنه كان مدركا تماما أنه يكذب وأن الخراف ليست جيشا جرارا وأن طواحين الهواء ليست شياطين ولكنها الآمال الكبرى التي تسيطر علي روح الإنسان وعقله وتجعله في لحظات ينهار أمامها وينسج لنفسه عالما خاصا به يعيش فيه وحده ويرسم خريطة العالم لتتوافق مع تلك الأماني البعيدة ولكنها الرغبة العارمة التي يتوقف أمامها العقل.

نحن جميعا نحمل داخلنا قدرا من دون كيشوت؛ فكل منا له أحلامه المنهزمة ورغباته الجامحة التي حطمها الواقع الشديد القسوة؛ وتتراوح الأحلام المنهزمة من أقصي درجات الفردية عند الكثير إلى أقصي درجات التجرد عند القليل، وبين هذا وذاك يقتحمنا دون كيشوت ويناضل في عقولنا كي نتحول جميعا إلي دون كيشوت الكامل؛ ونبدأ في صناعة عالمنا الخاص الذي نكون فيه فرسانا ويبدأ كل منا في ضبط الواقع علي حلمه وعلى قدر الحلم والقدرة على مقاومة الانسحاق يكون الجموح والابتعاد عن الواقع الحقيقي والاقتراب من الواقع المُتَوهَّم الذي صنعه دون كيشوت لنفسه.

وما يهمنا في حكاية صديقنا دون كيشوت هم أصحاب الأحلام الكبرى المتجردين؛ أو هكذا نرجو؛ هؤلاء يناضلون طيلة حياتهم في الغالب من أجل قيم ومبادئ لكي تكون شعوبهم ومجتمعاتهم في وضع أفضل؛ كلهم يملكون أحلاما كبرى ربما أكبر كثيرا من قدرة كل واحد منهم على تحقيقها ولكنه الحلم الكبير والأمل الهائل الذي يملأ هؤلاء الفرسان ويجعلهم فرسانا يتقدمون الصفوف ويدافعون عما يعتقدون؛ وعند اشتداد المعارك نجد كل منهم يهمس له دون كيشوت كي يصنع عالمه الخاص ويصنع أعداءا ليسوا حقيقيين أو يرى أعداء آخرين يستطيع أن يرفع سيفه أمامهم و يستمر الفارس على فرسه في عالمه الخاص بعيدا عن ميدان المعركة الحقيقي، ولكن دون كيشوت ليس بهذه السذاجة؛ فهو يصنع مع الهمس حالة من تصديق زائف كامل من الفارس أن الميدان الذي سيدخله ميدان الحرب الحقيقي وأن طواحين الهواء هي حقا شياطين وأن الخراف هي جيش جرار ولكن أيضا مع كل ذلك هناك نقطة عميقة داخل كل من هؤلاء الفرسان إدراك كامل بالحقيقة؛ ولكنها الرغبة في استمرار الجلوس فوق الحصان وإشهار السيف.

يفشل دون كيشوت مع البعض وينجح مع البعض الآخر ويعتمد ذلك علي مدي مقاومة الفرسان لتأثيره القوي في لحظات الصدام الحقيقي؛ لقد رأينا أتباع دون كيشوت الذين انسحبوا من معركة الشعب المصري مع الطبقة الحاكمة؛ فلم يستطيعوا أن يحملوا السيف أمام العدو الحقيقي وأغمدوا سيوفهم وعاشوا في عالم موازي كعالم صديقنا.

لم يعاني صديقنا في إقناعهم؛ فقد جاء هذا العالم الموازي موافقا لهوي لهم كما أنهم غير مؤهلين لنبل الفرسان وأقل مكانة من البقاء علي ظهور الخيول؛ فلم يترددوا في السقوط في الوهم والكذب وآثروا السلامة في عالمهم الوهمي الذي يعيشونه.

هؤلاء لا يعنونا في شيء؛ فهم فرسان مزيفون وربما لم ير صديقنا نفسه فيهم؛ فلا زال يحاول مع فرسان ما زالوا علي ظهور خيولهم يريد أن يخرجهم من المعركة الحقيقية التي يدركونها ولكنهم ينسجون عالما موازيا كعالم دون كيشوت.

إن صديقنا رجل طيب ولم يكن مجبرا علي خوض معارك وهمية ولم يكن له عدو حقيقي ولكنها تلك الآمال الكبرى؛ فرسان المعركة الآن وسط صليل السيوف وربما ينظر إليهم صديقنا بحسرة؛ فهو كان الحالم بمعركة حقيقية لم يستطع خوضها؛ فهل يستطيع صديقنا أن يصنع لهم عالما متوهما وإخراجهم من المعركة وصناعة عالم دون كيشوت جديد. فعليهم الاستمرار في المعركة الحقيقية وقراءة العدو الحقيقي ولا ينبغي عليهم صناعة صور خادعة.

صديقنا في النهاية اعترف بحماقته وأنه أضاع عمره في الوهم؛ فعلي رجال دون كيشوت الجدد الحذر؛ فصديقنا رجل كان وحده وانتهي وحده ولكنه بعث الآن من جديد؛ أما الآن فهناك الملايين خلف الخيول فلا تأخذوهم إلي عالم وهمي مصنوع علي يد دون كيشوت.