قبل 10 أيام بالضبط، كانت حملة "فلنشعل قناديل صمودها" في الأردن التي تطلقها لجنة
القدس وفلسطين في نقابة المهندسين الأردنيين بالتعاون مع إذاعة حياة FM بشكل سنوي منذ أربع سنوات.
تسير هذه الحملات في منحنىً تصاعدي، لكنها هذا العام قفزت نحو أرقامٍ غير مسبوقة، إذ أُغلق اليوم المفتوح على مليون وخمسة وسبعون ألف دينار، وهو أكثر من ضعف ناتج حملة عام 2014 الذي وصل إلى 468 ألف دينار. هناك الكثير من الدلالات التي ينبغي أن تُقرأ في الأرقام وفي الإقبال الاستثنائي على البذل والعطاء الذي لم يكن يترك مساحة لحديث ضيوف الإذاعة، بعض الضيوف جلس في الأستديو ساعة كاملة لكنه تمكن من الحديث لدقيقتين أو ثلاث في زحمة الاتصالات والإقبال على العطاء من الجمهور الأردني.
أول الدلالات هو أثر حراك الداخل
الفلسطيني على تفاعل الخارج معه، حتى في المحيط الأقرب لفلسطين. العام الماضي جاءت الحملة في ظل حملة تهويد مسعورة ضد الأقصى، فجمعت 468 ألفا، هذا العام جاءت ضمن حملة أشد للتهويد لكن مع وجود جوابٍ فلسطيني ثوري فاعل في مواجهته، فجاءت الثمار بأكثر من الضعف. هذه القضية كانت وما زالت تسرج بالدماء والتضحيات وروح الثورة والمواجهة.
ثاني الدلالات هو خيبة التعويل الغربي والإسرائيلي- وبعض العربي- على الزمن. فانتفاضة اليوم تأتي بعد 22 عاماً على اتفاقية أوسلو، وقودها شباب جاؤوا إلى الدنيا بعدها، وفي الأردن جاءت الحملة بعد 21 عاماً على توقيع اتفاقية وادي عربة، لتكشف عن موقعٍ مركزي للقدس في الوعي الأردني ما زال مخزوناً، كان مغيباً ولم يكن غائباً، وعن تسابقٍ نحو التضحية بما هو متاح أمام الناس، من متصلٍ بملك 13 ديناراً قوت بيته قدم 10 منها للقدس، ومن شابٍّ يقدم ما ادخره لخطبته كاملاً، وشبابٍ مثله جمعوا القروش والدنانير فقدموا من الجامعات الأردنية نحو 130,000 دينارٍ لهذه الحملة، وتجارٍ قدّم كثيرٌ منهم بعشرات الآف.
ثالث الدلالات هو أهمية فتح أبواب الفعل العملية، فقد مرّ زمنٌ على الأمة، وعلى الأردن تحديداً، تحولت فيه القدس إلى حالة رمزية شعرية خطابية مهرجانيةٍ فقط، وجاء الاكتفاء بالصوت العالي دون فعلٍ ليعمّق حالة عجزٍ صارخة إذ هو يظن نفسه يقدّم للقدس شيئاً، وكثرت ملامة الجمهور العاجز على لسان نخبة المنابر التي يفترض فيها أن تكون رائدته نحو الفعل المؤثر، حتى إذا ما جاء هذا الباب العملي ليفتح نافذة ضوء في ظلام العجز تسابق الناس فقدموا وأَبهَروا، وإذا بالعجز يستحيل سباقاً نحو الفعل. الدرس المهم جداً هنا هو للنخب التي تكتفي بتوصيف العجز وجلد الذات والجماهير، بأن واجبها يتجاوز الوعظ والتقريع والأستذة اللفظية المنابرية، إلى شق الطرقات نحو الفعل وكسر ظلام العجز والتفاعل مع واقعها بحيويةٍ تفتح الأبواب وتكسر الخزان ولا تكتفي فقط بطرق جدرانه.
أما رابع الدلالات فهو ذاك المتعلق بالمقدسيين، فصورة السباق نحو نصرتهم لربما تكون أبلغ وأعمق وأبعد أثراً من المليون دينارٍ التي جمعت لأجلهم -على الأهمية الحيوية لهذا الدعم وضرورة استدامته وزيادته. سعى الاحتلال منذ توقيع اتفاق أوسلو لتكريس واقعٍ جديد ووعيٍ جديد في أذهان المقدسيين بأنهم وحدهم، وبأن مصير فلسطينيي الضفة الغربية وغزة قد حسم وأنهم ليسوا جزءاً من هذا المصير، وأنهم ليسوا أكثر من "وسطٍ عربي" في القدس مرجعيته الأولى والأخيرة هي "البلدية"، وأن عليهم أن ينصاعوا وأن يبحثوا عن مصالحهم واستمرارية حياتهم تحت سقف هذه المرجعية. هذه الحملة ترسل رسالةً مضادةً تماماً، بأن للمقدسيين عمق يتجاوز الضفة الغربية إلى الأردن وإلى العالم العربي والإسلامي، فهم أبناء مدينةٍ أبناؤها بالملايين إذ تسكن قلوبهم، وليسوا أبناء المدينة اليتيمة التي تقع تحت سيف "البلدية" وسقفها. طبعاً هذه الرسالة اليتيمة لن تكفي لكسر جهدٍ عمره 22 عاماً لتدجين الوعي المقدسي وإعادة صياغته، لكنها سهمٌ أساسي يمزق الخيوط الزائفة لهذا الوعي، لا بد أن يسند بسهامٍ أخرى متتالية.
أخيراً، يحق لكل من أسهم في هذه الحملة أن يشعر براحةٍ ما في الضمير، وبسعادة الإنجاز، لكن من المبكر جداً أن نحتفل، ولا بد أن نخرج من مرحلة اعتبار مجرّد الفعل إنجازاً كبيراً –وهي سمة مرحلة العجز- إلى البحث عن تراكم الأفعال والإنجازات لصناعة حقائق جديدة على الأرض في القدس، لدعم مجتمعٍ يدفع ثمن مواجهة التهويد منفرداً ليصبح مستمداً لأسباب الدعم والاستمرار والمواجهة من محيطه، فيقلب الطاولة على مخططات الاحتلال وأحلامه بمدينة يهودية اسمها أورشليم.
هذه دعوة اليوم لنقابات المجتمع الأردني ونخبته الفاعلة، دعوة للمحامين ليشكلوا أو يفعّلوا لجنة محامين لأجل القدس في نقابتهم ليفتحوا أبواباً جديدةً للفعل والإنجاز، وللمعلمين ليفتحوا هذا الباب في نقابتهم، وللصحفيين كذلك، حتى تتراكم مسارات الفعل الحقيقية التي تترجم ما يحمله هذا الشعب الأصيل من مكانةٍ مركزية للقدس في وعيه ووجدانه، وتسند ثبات المقدسيين وصمودهم الذي يستحق الإكبار والإجلال، وتمهّد لمشهدٍ جديد من التلاحم الشعبي فعلاً وقولاً.
• باحث متخصص في شؤون القدس.