مقالات مختارة

إعلام صافيناز

1300x600
كتب فهد الخيطان: سبق جديد يسجله الإعلام العربي، المصري تحديدا، يتجاوز في قيمته وأهميته هذه المرة "إصبع الكفتة" الذي ابتدعه عالم مصري جهبذ لعلاج جميع الأمراض المستعصية، من السرطان إلى الإيدز.

مقدم برنامج "التوك شو" على فضائية "روتانا" تامر أمين، أماط اللثام عن أخطر منظمة في العالم تحمل اسم "المجلس الأعلى للعالم". منظمة خارقة، وقادرة على توجيه النيازك في السماء لضرب دولة بعينها، وتحريك البراكين من جوف الأرض لإحراق أي مدينة، كما إغراق دول بالفيضانات، وإحداث زلزال يخفي دولا عن وجه الأرض.

أمربكا، طبعا، هي من تتولى قيادة هذا المجلس العالمي الذي أسبغ "الأخ تامر" عليه قدرات إلهية. ومصر، بالطبع، هي الدولة الأولى المستهدفة من المجلس المذكور. مصر، وكما يقول الإعلامي تامر "مستهدفة منذ أن وجدت قبل آلاف السنين، لأنها قلب العالم"!

لم يكن ما قاله تامر حديثا اعتباطيا؛ يعني "مش أي كلام". فقد استند إلى معلومات عرضها على الهواء مباشرة رئيس مركز دراسات استراتيجية في مصر، ولواء متقاعد من القوات المسلحة، يدعى حسام سويلم. وسويلم لمن لم يسمعه من قبل، هو بحق خبير "نهفة". وقد علّق أحد المتابعين على كلامه بخفة دم المصريين المعهودة: "هو العضو بمجلس إدارة العالم يتفك بكام لواء".

الحقيقة أن الإعلام المصري والتلفزيوني على وجه الخصوص، إعلام"نهفة" بالفعل، بلغ درجة غير مسبوقة من السخافة و"الهيافة"؛ مجموعة من المهرجين والمخبرين برتبة "شاويش" يملأون الشاشات كل ليلة، صراخا وتهريجا فارغا. كل ما يهمهم إقناع العرب والمصريين بأن بلادهم تتعرض لمؤامرة كونية. العالم كله، حسب فضائيات "التوك شو"، ترك الدنيا ومشاكلها وانشغل بالتآمر على مصر وقيادتها.

يشفق المرء على الجمهور العريض من المشاهدين الذي يصحو وينام على إعلام الهلوسة؛ إعلام لا تتورع إحدى نجماته عن وصف الناس بالصراصير، وتدعو إلى ضربهم بـ"الشبشب".

ساعات طويلة من البث تحشو عقول الناس المتواضعة أصلا، بالأكاذيب والخرافات، وتثير فيهم أبشع العصبيات وأشد الغرائز وحشية. إعلام يعلّم الناس الجهل في زمن الثورة المعرفية الهائلة، ولا يتوانى عن توظيف التكنولوجيا لنشر البدع.

وفي خدمة هذا الإعلام صف عريض من المحللين والخبراء، أمثال حسام سويلم، وبائع الأعشاب الذي تحول بقدرة الإعلام المصري إلى عالم يعالج "الإيدز" بالكفتة!

لم يكن الإعلام المصري في زمن حسني مبارك بهذا القدر من الانحطاط والسوء؛ كان إعلاما مقيدا، لكنه لم يكن مبتذلا بهذا الشكل. ترك مساحة لوجوه محترمة لتقول رأيها. وفي عز الترويج لسياسة التوريث، لم يصل خيال أنصار النظام إلى المرتبة التي بلغها حاليا من السخف، والحط من عقول المشاهدين.

في مصر، كما في دول كثيرة، هناك سباق بين مقدمي برامج "التوك شو" على كسب الجمهور، وما يعنيه ذلك من زيادة العائد الإعلاني للمحطات التلفزيونية وأجور الإعلاميين. لكن ذلك لا يكون على حساب المصداقية والمهنية، بل إن التنافس مثلما نشاهد في المحطات الأجنبية، يكون بالمعلومات، والسبق الصحفي الموثق والصحيح، والحوار الذكي المدعم بالحجج المنطقية والقوية، وليس بساعات من الثرثرة والتهريج الفارغ، والعرض السطحي لأفكار عدمية وخرافات بوصفها حقائق تصدر من علماء وخبراء، لا تتعدى خبرتهم حدود "الاستديو".

علق أحد المصريين ساخرا من كلام تامر أمين بالقول: "المجلس الأعلى للعالم يكرم الراقصة صافيناز لاكتشافها طريقة إحداث موجات زلزال أكثر تأثيرا".

(عن صحيفة الغد الأردنية، 13 أيلول/ سبتمبر 2015)