بهدوء الواثق المطمئن؛ يدير
إيلان كردي ظهره للعالم الذي رفضه حيا، وتباكى عليه ميتا. يوجه حذاءيه الصغيرين بصورة لافتة إلى ضمير عالمي مات عدة مرات، فهذا الضمير يذكرنا بالقط الذي له سبعة آلاف روح، يستيقظ فقط ليموت مع كل طفل يقتل عبثا وظلما في هذا العالم المليء بالدم والظلم والاستبداد.
يفتح إيلان يديه الغضتين المبللتين بالماء كزهرة لوز تقطر ندى وصبابة باتجاه السماء، في دعاء أخير، على ما يبدو، على إنسانية قتلته بردا وغرقا ولجوءا، قبل أن تفتح له بيوت العزاء المجللة بالحزن والنفاق، ويرخي أذنه وعينه اليسراويين الصغيرتين، لعله يسمع أو يرى خبرا يخفف من عذابات الطفولة السورية الضائعة بين القتل بالبراميل، أو الموت جوعا، أو الغرق في المياه الباردة في طريق التغريبة المشرقية التي لا تنتهي.
على أرض قريبة من جانب آخر للبحر المتوسط الذي جرف إيلان يرقد أحمد الفلسطيني، أحمد الدوابشة، مغطيا من رأسه حتى أخمص قدميه بالجبس، كاشفا وجهه الجميل، وعينيه الباكيتين، وفمه الذي تطرح شفتاه الحزينتان أسئلة لا أجوبة لها؛ أسئلة عن أخيه الأصغر، عليّ، الذي كان يغار منه؛ قبل أن يموت حرقا على أيدي مستوطنين صهاينة، وعن أبيه الذي كان يريد أن يكبر بسرعة "ليخاويه" ولكنه مات أمام عينيه، وعن أمه "ريهام"، تلك الشابة التي فارقت "فلسطينها" في عيد ميلادها السابع والعشرين، وهي تشتعل من الحسرة على الزوج المقتول والابن المقتول والابن الآخر المحروق؛ لهيبا يفوق لهيب النار التي أتت على جسدها وأردتها قتيلة بعد أسابيع من العلاج.
على إحدى شواطئ المتوسط، أدار إيلان الكردي ظهره للعالم المنافق، وفي إحدى مسشفيات دولة الاحتلال التي ترعى الإرهاب ضد الفلسطينيين، يوجه أحمد الفلسطيني نظراته "الطفلة" الغاضبة لهذا العالم، فكأن مأساة سوريا، ومأساة الكرد، ومأساة فلسطين كانت تحتاج إلى كل هذا الحزن والوجع الموثق بالصور، حتى يصحو الضمير العالمي من إغفاءته، ويمارس تجارته الرائجة بالتغني بحقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحق البشر بالحياة، مجرد الحياة!
في صورة الطفلين، إيلان كردي وأحمد الفلسطيني، تتلخص الحكاية اللامنتهية في الشرق، حكاية القتل والعذاب والألم الذي يمكن أن يظل عاديا ومقبولا، إلا إذا حظي أحد القتلى أو الضحايا بلقطة من كاميرا "فنان"، يستطيع أن يخلد بعدسته الديجتال لحظة الموت أو الحزن، بصورة تتلقفها وكالات الأنباء، لتصنع "قصة صورة خبرية"، فيصبح القتل والعذاب، آنئذ فقط، حالة يمكن التوقف عندها، أو الحزن عليها، حزنا يليق بعظمة "الصورة"، لا عظمة الموت والفجيعة!
وعلى الرغم من "المهرجان العالمي" لصحوة الضمير العالمي المنافق في مثل هذه الحالات، إلا أنها تبقى أيضا صحوة مؤقتة، تعود إلى سباتها العميق بعد ضياع الصورة بين مئات الصور التي تبثها الوكالات والمواقع الإخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي، فتذهب الصورة، ويذهب أثرها، ويبقى الوجع بقلب أبي "إيلان"، وبروح الطفل أحمد الذي سيكتشف بعد قليل أنه سيكمل حياته بلا أب ولا أم ولا شقيق صغير يمارس عليه دور الأخ الكبير!
هي إذن صحوة مؤقتة، فلا تفرحوا كثيرا أيها الضحايا إن حظيتم "بصورة" تؤرخ موتكم "الشهير"، لا تفرحوا كثيرا فالمصور المبدع سينشغل بمهمة عمل أخرى غير تخليد عذاباتكم، والعالم المنافق سيقلب الألبوم بعيدا عن صوركم بعد أن أراح ضميره بالتفاتة "باذخة" لفقراء الشرق، ورواد الفيسبوك والميديا الجديدة سينكبون ليلا على حساب "اللايكات" و"الشير" لصوركم المدرجة على صفحاتهم الزرقاء.. لا تفرحوا كثيرا، فسيذهب الجميع، ويبقى وجعكم، ووجعنا.. ووجع الفلسطيني أحمد الدوابشة الذي يغني مع سميح شقير: "لي صديق من كردستان... اسمه "إيلان""!
فالسلام على روح إيلان.. والسلام على روح أم أحمد وأبيه وأخيه وما تبقى من شتات روحه الصغيرة، والرحمة على صحوة مؤقتة لضمير عالمي عاد ليرقد بسلام!