مقالات مختارة

خسارتنا ليست لغزا

1300x600
كتب سرمد الطائي: لا تفتشوا عن حل للألغاز والأحاجي والحزورات، ولا تنفقوا مزيدا من الوقت في أسئلة من قبيل: كيف حصل هذا، ولماذا ننتكس؟ لن تعثروا على إجابات لأنكم تصوغون السؤال داخل إطار الكارثة.

ولابد من الخروج عن إطارها لملاحظة الوقائع. إننا لا نمر بنكسة ولا خسارة. في الخسارة يوجد رابح. أما في مصيبتنا فكلنا خاسرون وننزف ونهدر الأرواح والسنوات من أجل لا شيء.

إننا لا نمر بخسارة، بل نعيش بصيغة مصممة للخسارات فقط. لأننا قررنا البقاء خارج التاريخ. وما نعيشه اليوم هو مجرد طعم التواجد خارج التاريخ.

إن العالم المتقدم يشبه مدينة عملاقة محاطة بالأسوار، وخارج الأسوار تلك وحوش ضارية، ولا قانون يحكم ظروفها سوى المخالب والأنياب. ونحن قررنا الخروج من المدينة المحمية بالأسوار إلى حيث حفلة الدم خارجها.

أمضينا عقودا طويلة ونحن نوجه الشتائم للعالم المتقدم، ونحتقر قوانينه، ونسخر من طريقته في الحياة، ثم صرنا نشكك حتى بأهمية معارفه وعلومه، فانقذفنا وراء الأسوار، وها نحن نتذوق طعم الطرد إلى حفلة الدم والأنياب والسكاكين.

لا يمكن لشعب أن يعزل نفسه عن الدنيا، ثم يأمل أن يبقى في وضع طبيعي مثل أوضاع هامبورغ أو سيئول أو دبي. ليس الأمر متعلقا بمؤامرة كونية، ولا بشجاعة جنودنا، ولا انسجامنا الداخلي. لقد خرجنا من ذوق وقواعد العالم المتقدم، وصرنا نكره الموسيقى والسينما، ولا نتعامل مع الشركات الأجنبية، ونقيد حركة النساء، ونشك بكل ما هو حديث، ونبالغ في كل هذه الموضوعات وننشغل بها أكثر من اللازم.

لم نعد شركاء للدنيا. كل الأجانب القادمين إلينا يشعرون بالوحشة والخوف والغربة.

تقمصنا طريقة حياة لا علاقة لها بالعالم. ثم انتكسنا تربويا وتنمويا وحتى صحيا، فغرقت مدننا في القذارة والأزبال، وصرنا نسأل أنفسنا: كيف يمكن الحصول على مدينة نظيفة؟ أما الآن فعلينا أن نسأل: بعد أن يعيش الناس سنوات طويلة في مدن تملؤها الأوساخ، وتحرم فيها الموسيقى، ويحاصر الشباب، وتقيد المرأة، ويخشى الأجنبي زيارتها أو العمل فيها.. هل يصبح صعبا إشعال حرب أهلية؟ وهل تبقى لدينا مهابة أمام جار أو حليف أو دولة صغرى أو عظمى، كهيبة تمنعهم من التلاعب بنا؟

ليست خسارة ولا مؤامرة، بل خروج متسارع من التاريخ، هذا طعمه. والدليل أن أصدقاءنا أنفسهم حائرون في كيفية مساعدتنا. وأعداؤنا حائرون أيضا في حجم "التسهيلات" التي نمنحها لهم بسبب سياساتنا الخاطئة.

أنه طعم الجانب الآخر من الدنيا، الموحش، المنشغل بالخلاف حول الله والجدل حول السماء، ومحاولة تحديد الفرقة الناجية، والتلاعن والتكفير، وجعل الناس ينشغلون بالقشور وينسون الجوهر الأخلاقي للأديان وروح العدالة واللياقة والذوق.

وكيف يمكن لمدن غارقة في الأزبال أن تمتلك جيشا قويا يدافع عنها؟ وكيف نفشل في تأسيس سياسة بلدية صحيحة تجعل مدننا بمنظر لائق، ثم نطلب من الجيش أن يكون متقنا ومنضبطا وشجاعا ومندفعا، ولا يقهر؟ كيف يمتلك البلد الفاشل، جيشا ناجحا؟ وكيف نتمسك بالعزلة عن الدنيا وتحريم طريقة الحياة الحديثة، ونطالب الدنيا التي نعتبرها كافرة، بأن تساعدنا في الأمن والاقتصاد والمعرفة والصحة؟

ليس ما حصل مفاجأة، ولا لغزا. أنه طعم الخروج من التاريخ. وإذ لا نزال نأمل أن ندخل لحظة تصحيح ومراجعة، ونتمنى أن هناك فرصة إضافية لتجاوز أخطاء صدام حسين ومن قبله، ومن بعده، فإن ما يستحق أن ننتبه إليه هو أن كل الويلات التي حصلت لا تمثل النكهة الكاملة لمعنى الخروج من التاريخ.

بل أمامنا أن نتدحرج أكثر فأكثر، وأن نهبط في قاع أبعد لنكتشف أن التدهور يمكن أن يصبح بلا حدود حين تنشغل الأمم بأسئلة خاطئة، وتتمسك بالعزلة عن قواعد الدنيا وتغير الزمان وتقدمه.

إنه مجرد تذوق جماعي لطعم الخروج من التاريخ.

(عن صحيفة المدى العراقية- الأربعاء 21 أيار/ مايو 2015)