عام ميلادي جديد، أربعة أعوام مرت منذ يناير 2011، سقط آلاف الشهداء، وجرح عشرات (وربما مئات) الآلاف، وفي السجون اليوم عشرات الآلاف، ونزل إلى الشارع ملايين، وشارك في الاستحقاقات الانتخابية عشرات الملايين.
بعد أربعة أعوام... أصيب كثيرون ممن كانوا في الطليعة بالإحباط، وتقدم كثيرون ممن كانوا في الصفوف الخلفية ليحملوا الراية، وسقطت أقنعة، وشاء الله أن تظهر حقيقة كل امرئ دون تزوير، فمات على
المبادئ من مات، وكانت خاتمة السوء لكثيرين ممن باعوا مبادئهم، وبدلوا قبلتهم، فوقفوا مع الاستبداد، وساندوا
الثورة المضادة، كرها في حزب أو جماعة أو فكر يختلفون معه.
يتساءل اليوم جيل كامل، ماذا تعلمنا من هذه السنوات الأربع التي مضت؟ ماذا تعلمنا من كل هذه المعارك التي خاضتها الثورة؟ من الأفراح والأتراح؟ من الانتصارات والهزائم؟
ليس عيبا أن نهزم في جولة، ولا أن يتراجع المد الثوري، بل العيب أن لا نتعلم من أخطائنا، لأن كل هذه الكوارث يمكن أن تتكرر إذا لم نتعلم.
أعتقد أننا قد تعلمنا الكثير، وما تعلمناه يصعب حصره في مقالة، ولكني أزعم أن أهم ما تعلمناه في هذه السنين من الممكن إجماله في عشر نقاط (وليس ذلك على سبيل الحصر).
أولا: التغيير ليس نزهة
لقد تعلمنا أن التغيير ليس نزهة، وليس جولة تنتهي في أسبوعين أو ثلاثة، ولا في عدة استحقاقات انتخابية.
التغيير أمر صعب، ومن يطالب الناس بتغيير نمط حياتهم فلا بد أن يتوقع مقاومة قوية، من الأخيار والأشرار، لأن مطالبة الناس بتغيير عاداتهم التي ألفوها (حتى لو كانت تلك العادات ضد مصالحهم) أمر ثقيل جدا على النفس البشرية.
لقد تعلمنا أن المجتمع يستصعب التغيير، وأن الناس لن يرحبوا به، وأننا لا بد أن نستثمر الكتلة الحرجة التي اقتنعت بالتغيير لكي تقود الناس إلى ما فيه خيرهم.
ثانيا: التغيير ضرورة قصوى وليس رفاهية
كنا نظن أن الدولة
المصرية يمكن إصلاحها، وأن مؤسسات الدولة من الممكن أن تتعاون مع المؤسسات المنتخبة، وأن التوجهات الجديدة ستفرض نفسها بالتدريج، وكانت تلك سذاجة كبرى.
لقد تعلمنا الآن وبعد كل هذه الدماء أن الإصلاح من الداخل وهم، وأن كثيرا من مؤسسات الدولة لا بد لها من حملات تطهير لا هوادة فيها، وأن كثيرا من هذه المؤسسات أصبحت حصونا للفساد، وقلاعا للباطل، وأنها على استعداد لارتكاب جميع الموبقات من أجل استمرار نفوذها ومكاسب أعضائها الشخصية.
لقد عرفنا أن التغيير ضرورة، فهذه المؤسسات تعمل ضد مصالح الأمة علنا، جهارا نهارا، واستمرارها خيانة عظمى لهذا الوطن.
ثالثا: لكل جيل زمنه وهذا زمننا
لقد أشعل جيل يناير ثورة عظيمة، ثم جاءت الثورة المضادة، وانتصرت في جولة هامة، وأسقطت المسار الديمقراطي كله، ولكن زلزال يناير أعمق مما يتخيلون، وتبين لكل صاحب بصيرة أنه لا توجد قوة في الدنيا تستطيع أن تعيد الزمن إلى الوراء.
لقد استطاعت هذه الدولة أن تقتل، وأن تغتصب، وأن تعتقل، وأن تحرم الطالب من مدرسته وجامعته، وأن تفصل الأستاذ من موقعه، وأن تحرم الكاتب من جريدته، والإعلامي من منبره... ولكنها لم تستطع أن تخمد هذه الثورة، وأن تمنع هذا الجيل من أن يهتف (يسقط حكم العسكر).
لقد انتصرت الثورة المضادة بتآمر العجائز، وبأفكار العجائز، ولمصالح العجائز.
أما زمننا هذا فقيادته لهؤلاء الشباب، وكل من يعارض ذلك فهو يعارض سنن الله في الكون، لقد تخطى الزمن جميع الأجيال السابقة، وهذا أهم أسباب اندلاع ثورات الربيع العربي!
لقد همش العجائز من خلفهم، وبخلوا عليهم حتى بحقهم في أن يتعلموا أسرار كل مهنة، لكي تظل الكراسي والمناصب شاغرة، بانتظار أصحاب الشعر الأبيض المصبوغ لكي يشغلوها.
لقد تعلم شباب مصر أن هذا زمنهم.. ولن يسمحوا لأحد بأن يأخذ زمنه وزمن الآخرين.
رابعا: زمن العسكر انتهى
من أهم دروس هذه السنوات درس الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013 وما تلاه من مجازر وانتهاكات، وخلاصة ما تعلمناه من هذا الدرس أن زمن الحكم العسكري قد انتهى، وكل ما نراه اليوم من محاولات عنيفة للأجهزة الأمنية لإثبات أن الدولة العسكرية ستبقى... مصيره إلى الفشل الذريع.
لقد ارتكبت القيادات خطيئة كبرى، وصدرت المؤسسة العسكرية في كل شيء، وها هي تفشل في سائر الملفات، وها هي فضائحها على سائر الألسنة والقنوات، وها هي قدراتهم تتجلى في عصر السماوات المفتوحة، العلاج بالكفتة، وفضائح كبار القادة على القنوات الفضائية.
لقد فقدت المؤسسة هيبتها بعد أن ظهرت حقيقة قدراتها، وكيف لمؤسسة وظيفتها حفظ الأمن القومي أن يصدقها أحد وهي لا تستطيع أن تؤمن مكاتب قادتها!
كل ما نراه اليوم سينهار قريبا جدا.. ولن يأتي بعد ذلك إلا انفتاح كامل للحريات.
خامسا: الدساتير مجرد ورق.. والأمر الواقع أقوى من الدساتير
اكتب ما شئت في الدستور، سيظل الأمر الواقع أقوى!
وهذا الدرس سيفيدنا في الدستور الحقيقي الذي سنكتبه خلال السنوات القادمة، فلن تحدث معارك فارغة على الصياغات، بل ستكون المعركة الحقيقية في تغيير المؤسسات بحيث تصبح مؤسسات قادرة على الالتزام بالدستور، وعلى تغيير القيادات بحيث يصبحون من النوع الذي يلتزم بالدستور.
إن دستور الانقلاب العسكري من الناحية النظرية يحتوي على فصول رائعة، مثل الفصل المتعلق بالحريات، ولكن... لم تعرف مصر انتهاكات للحريات مثلما عرفته في عهد الدستور الذي يتحيز للحريات!
معركة التغيير الحقيقية في تغيير الواقع ومؤسسات الدولة، وليست معركة الصياغات اللغوية لنصوص الدساتير والقوانين.
سادسا: الدول لا تبنى بالجثث والمذابح
كل من يرى أن بإمكانه أن يبني دولة واستقرارا على جثث المواطنين ينبغي أن يخرس إلى الأبد!
الذين برروا الدم، ووعدوا الناس بالخير إذا سكتوا على قتل إخوانهم وجيرانهم، وهددوهم بالمصير نفسه إذا استنكروا... كل هؤلاء ينبغي لهم أن يخرسوا..
ولا بد أن يعلم الجميع أن أي قادم للحكم (فردا كان أو جماعة) إذا استخدم (القتل خارج إطار القانون) كوسيلة من وسائل فرض أمر واقع سياسي جديد، فإن عاقبته ستكون الخسران في الدنيا والآخرة، وسوف يقاومه الناس، وستطوى صفحته سريعا، وسيحاسب هو وكل من عاونه حسابا عسيرا.
لن يستطيع أحد أن يحول مسار نهر التاريخ ببناء سد من جثث الأبرياء أو المعارضين!
والدليل كل ما نراه الآن من انهيار لأجهزة الدولة، ومؤسسات الأمن، والمؤسسات الاقتصادية والتعليمية وغيرها.
إن أي مشروع تغيير حقيقي في بلداننا، يطمح في أن يتقدم بها للأمام، أو أن يخطو بها فوق العقبات، لن يتم إلا باصطفاف الناس خلفه مؤيدين، أو بأن يعطوه الفرصة على الأقل قبل أن يعارضوه، وهذا أمر لن يتحقق مع نظام له ثأر مع آلاف الناس، ويتمنى جزء من المجتمع أن ينتقم منه، أو أن يراه منهارا مهما كان الثمن.
سابعا: الديمقراطية مسار تدريجي
الديمقراطية ليست حبة أسبرين تتناولها الأمة فتزول آثار صداع الاستبداد المزمن بعد عدة دقائق أو ساعات!
الديمقراطية عملية تراكمية، تحتاج إلى الصبر، وإلى الممارسة لعدة سنوات، حتى تبدأ الكوادر المدربة بالظهور، وحتى تزول آثار الاستبداد تدريجيا.
ومن الطبيعي أن ينحرف المسار بعد عهود استبداد طويلة، ومن الطبيعي أيضا أن يصبر الناس على الممارسة الديمقراطية، لأنها تحتوي في داخلها على علاج هذا الانحراف.
الديمقراطية تصحح ذاتها... وعلاج انحراف الديمقراطية هو مزيد من الممارسة الديمقراطية!
أما من يتخيل أن الديمقراطية مجرد صناديق يصل بها إلى الحكم، وبعد ذلك يصبح مطلوبا من الناس أن يتصرفوا مثل الشعوب التي عاشت عمرها كله في الديمقراطية... فهذا خيال مريض.
نحن شعوب من المؤلفة قلوبهم في الديمقراطية، ولا بد من المرور بمراحل متعددة عبر أشكال من التوافق الوطني حتى نصل إلى مرحلة المغالبة بالأكثريات التي تأتي بها الصناديق.
ثامنا: لا تنجح الثورات إلا إذا حكمت
الموجة الثورية القادمة ستبدأ قريبا... ولكنها لن تنتهي إلا بعد أن يصل من يمثل
الثوار إلى الحكم بشكل حقيقي!
لن نقبل بعصام شرف جديد، ولا حتى بمرسي آخر، بل ستكون الثورة صاحبة القرار، وصاحبة اليد العليا، وستطبق برنامجا حقيقيا للعدالة الانتقالية، ولن تسمح لأذناب الثورة المضادة بالعبث بأمن العباد والبلاد.
تاسعا: تغيير النظام في مصر ليس شأنا داخليا شئنا أم أبينا
مصر دولة من أهم دول العالم..
ولذلك لا بد أن نعلم أن ما حدث خلال السنوات الماضية كان مؤامرة من العالم كله تقريبا، من أجل الحفاظ على مصالح القوى العظمى دوليا وإقليميا، وهي مصالح تتعارض في مجملها مع المصالح الحقيقية لمصر والمصريين.
لا بد أن ندرك هذه الحقيقة، وأن نعلم أننا بحاجة إلى إعادة صياغة علاقاتنا مع العالم كله، وأن مؤسسة مثل وزارة الخارجية المصرية لا بد أن تخضع إلى تغيير شامل في كل شيء، في القيادات، وفي السياسات، ولا بد أن تفرض الثورة رؤيتها لسياسة خارجية تحافظ على مصالح الأمة واستقلالها الوطني، بعد عهود وعقود من الخضوع لإملاءات الخارج.
عاشرا: كل من يطالب بالديمقراطية يعادي إسرائيل.. وكل مستبد صديق لإسرائيل
وبالتالي... لا بد أن يعلم كل المطالبين بالديمقراطية أنهم سيتعرضون لكل أشكال المؤامرات الإسرائيلية منذ اللحظة الأولى لهم في السلطة، وأنهم في نهاية الأمر سيشتبكون مع الكيان الصهيوني بكل الأشكال، بما في ذلك الاشتباك العسكري.
هذه الحقائق أصبحت واضحة أمام سائر القوى الثورية من جميع الاتجاهات، وقد تعلمنا هذه الدروس بالدم، ولن ننساها أبدا، وسوف نستفيد منها قريبا في حراك ثوري قادم بإذن الله.
قد يظن كثير من الناس أن ما مررنا به خلال السنوات الأربع كان تجربة فاشلة، والحقيقة أنه كان تجربة قاسية، ولكنها مؤهلة للنجاح، خاصة بعد كل هذه الحقائق والدروس.
لقد انكشفت أمام أعيننا حقيقة مجتمعاتنا، وحقيقة دولنا، وحقيقة العالم الذي نعيش فيه، وتخلينا عن رومانسيتنا، وعرفنا واجباتنا، ونقاط قوتنا وضعفنا.
هذا الجيل العظيم لم يكن مؤهلا للنصر مثلما هو اليوم، وصدق الله العظيم إذ يقول: "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"!
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين