كتاب عربي 21

ليبيا: حوار غير الراغبين

1300x600
ليس من الضروري أن تتوفر ضمانات نجاح الحوار لكي ندعو للحوار، فالدعوة للحوار تنشأ من خطورة الوضع لهيمنة أدوات غير سياسية على المشهد، وتداعي الوضع بشكل خطير على الصعد كافة. لكن لا تلغي هذه المسلمة ضرورة أن تسعى الأطراف المعنية بالحوار لتوفير الحد الأدنى من ضمانات نجاحه، ويتعلق الحد الأدنى بجدية الأطراف المتنازعة ورغبتها في التحاور لأجل الوصول لتسوية سياسية. 

مع اقتراب الموعد المضروب لأولى جلسات الحوار للجولة الثانية وهو الخامس من يناير، أعتقد بأن هناك ما يبرر تأجيله مرة أخرى، أو عقده بتمثيل ضعيف، وذلك لأن استراتيجية كلا طرفي الصراع اليوم عسكرية بامتياز، وتأتي الأداة السياسية تفعيلاً للخيار العسكري وسعياً لإنجاحه وتحقيق المكاسب المرادة منه. فالكرامة ترى أنها دون السيطرة على بنغازي فهي على هامش الفعل السياسي الحقيقي في ليبيا، بل وحتى في "برقة"، فيما تدرك قوى فجر ليبيا أن مشروعها "التصحيحي" لن يكون له ثمار ما لم يتم السيطرة على حقول وموانيء النفط بعد ضرب القوى المناوئة، خاصة في جنوب غرب طرابلس. 

في ظل استراتيجيات كهذه، لا يمكن أن يكون للحوار معنى، لأن الحوار وببساطة يتطلب إرادة حقيقية للتوافق واستعداداً جاداً للتنازل وهو ما يتناقض مع مضامين الخيار العسكري الذي ينطلق من فكرة فرض الإرادة بالقوة وهزيمة الآخر على الأرض وإرغامه إما على الانسحاب تماماً، أو الخضوع لشروط المنتصر.

هذا ما يتضح من متابعة ما يجري على الأرض، ورصد تصريحات قيادات الكرامة وفجر ليبيا، وحراك الكثير من أنصار الطرفين. فما يعلو هو صوت المعارك ودعوات التصعيد، وما يجري هو مزيد من الحراك العسكري على الأرض، وبالتالي فلا يمكن أن يكون للحوار معنى ومضمون في المدى القصير. وهل يمكن أن يكون لقصف مصراتة من طيران الكرامة دلالة إلا قطع الطريق على حوار لا موقع تفاوضي قوي للكرامة فيه.

بالنسبة لراعي الحوار وهي الأمم المتحدة، فواضح أن مبعوثها يعجز عن تقديم نموذج توافقي مرضي للطرفين، ولا يعود ذلك فقط لتعقيدات الأزمة و لتعنت الأطراف ورهانها على القوة لتحقيق الأهداف، وإنما لتأرجح وارتباك مواقف مبعوث الأمم المتحدة، برننادينو ليون، مع مساعيه في أن يعيد التوازن لمواقفه ويكتسب الحد الأدنى المطلوب من ثقة الطرفين.

على مستوى الأطراف الأكثر أهمية والأكثر تأثيراً، وهم الخمسة الكبار، لا يوجد ما يشير إلى خيار ملائم لحل الأزمة سياسياً وعبر الحوار، ولا اتفاق على آليات ضغط لتفعيل الحوار، هذا من جهة. من جهة أخرى، هناك تصرفات انفرادية من بعض الأطراف المعنية تسهم في تعقيد المشهد، وتتناقض مع الخطاب المعلن الذي تم التعبير عنه عبر ثلاثة بيانات جماعية صدرت خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

الأكثر أهمية فيما يتعلق بالتمهيد لحوار ناجح، ضبط مواقف الأطراف الإقليمية وتحييدها؛ إذ من الواضح أن الصراع يتطور ويتسع بمشاركة ومساهمة أساسية من أطراف إقليمية تتورط بشكل مباشر في الأزمة، وسيكون من أبرز عوامل إضعاف التعويل على الخيار العسكري، وقف الدعم والمساندة الخارجية، ووقف التأثير المباشر على اتجاه الأزمة، إذ إن هناك ما يشير إلى تعدي التدخل بالإمداد بالسلاح، إلى التوجيه والتحريض على انتهاج التصعيد العسكري والتخطيط لذلك.

عندما يتم تحييد الأطراف الإقليمية، والتوافق بين الأطراف الدولية على رؤية واضحة قائمة على منطلقات تتطابق والديمقراطية واحترام المؤسسات السيادية وفي مقدمتها القضاء، والدقة في وصف الأعمال الإرهابية وعدم الازدواجية في إدانة العنف، بمعنى اختلال معايير التجريم لتنطبق فقط على السلوك وليس التوجه الفكري، عندها يمكن أن يتمهد الطريق لحوار ناجح، ودون ذلك فلن يكون للاجتماعات المرتقبة في حال عدم التأجيل أي قيمة حقيقية، وستجد الأطراف الدولية نفسها أمام خيارات صعبة لن يسهم أي منها إلا في تعقيد المشهد وتأزيم الوضع.