رويت بالأمس على صفحتي العامة بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) بعض تفاصيل العرض الذي عرضه العسكر على تحالف دعم الشرعية، والذي تتلخص شروطه في الإطاحة بقزم الانقلاب، وعودة الجيش إلى ثكناته، وعدم تدخله في السياسة، وتضمن الإفراج عن كل المعتقلين، وتعويضهم، ومحاكمة ضباط الداخلية المتورطين في عمليات قتل وقمع ضد الثوار، بشرط عدم عودة الرئيس الشرعي، وعدم مشاركة الإخوان في الانتخابات لمدة عشر سنوات، مع انتخاب طرطور مدني من خارج الجيش، ومن غير الإخوان لمنصب الرئيس، وهو ما رفضه الإخوان المسلمون.
الأذكياء الذين يحللون الأحداث في الفترة الأخيرة، سيربطون بعض الأمور بما أقول، وستتضح الصورة أمامهم، بداية من خروج بعض الرموز العلمانية لتنتقد قزم الانقلاب علناً، وحتى اعتقال الدكتور بشر، واتهامه بتهم كوميدية، مثل التخابر لحساب النرويج، وتغير لهجة البعض مثل مبروك عطية الذي سخر من علامة رابعة، وطالب القزم بالترشح، وقال إنه مؤيد من الله، ثم صرح مؤخراً أن الإخوان (ناس بتوع ربنا)، ثم الإعلان العجيب من جانب التحالف الذي كان دائماً يدعو للاصطفاف، ولأول مرة عن عدم مشاركته في المظاهرات التي دعت إليها حركة6 أبريل في محيط ميدان التحرير، والاكتفاء بفعاليات التظاهر اليومية المعتادة، مما عرّى تماماً حركة 6 أبريل، وكشف انعدام قدرتها على الحشد، وأن أفرادها يعدون بالعشرات!
هذه التفاصيل وغيرها كثير، مثل عودة البرلمان للانعقاد، هي أجزاء الصورة التي يستطيع الأذكياء قراءتها، ليتأكدوا من صحة ما قلته، وليدركوا أن الإخوان المسلمين، مع كل أخطائهم، رفضوا كل تلك الشروط، وأن أي حراك بدونهم يساوي صفراً كبيراً.
أغلب ظني أن الضغط على قطر لغلق قناة الجزيرة مباشر
مصر، والتصريح المتزامن لنائب رئيس الوزراء التركي، جاء رداً على رفض الإخوان المسلمين لذلك العرض، وبطبيعة الحال فإن القوة الوحيدة القادرة على ممارسة تلك الضغوط هي الحكومة الأمريكية، التي تريد إقصاء الإسلاميين من الساحة السياسية، ودفعهم إلى الحائط، كما حدث في تونس، بل إن دنيس روس مبعوث السلام السابق للشرق الأوسط، كتب صراحة أنه لا يجب السماح للإسلاميين إلا بالوضع الذي وصلوا إليه في تونس.
تفاصيل الصورة منذ ستين عاماً، تظهر حالة الوهم والتنويم المغناطيسي الذي يُمارس على المصريين عن طريق ممثلين محليين، وبإخراج أمريكي، ففي كتابه (لعبة أمريكا الكبرى)، يحكي هيو ويلفورد كيف درّبت "
سي آي إيه" أجهزة المخابرات المصرية، وكيف دبّرت حادث المنشية لتلميعه، وكيف طورت منظومة الإعلام المصري، وأعادت هيكلة وزارة الداخلية، وإذاعة (صوت العرب)، وكيف كان عبد الناصر صديقاً للأمريكيين، وكيف تمت (قرطسة).
جماهير المصريين وصناعة نجم من مجرد عميل كان يتدحرج في كف ضباط "سي آي إيه"، وفي مقال له نشر في عام2012 ، حكى السفير السوفييتي السابق في القاهرة إبان حرب أكتوبر، فلاديمير فينوجرادوف، كيف دبر كيسنجر مع السادات وديان حرب أكتوبر، التي قاتل فيها شبابنا بشجاعة، واستشهد آلاف منهم، وكيف أن دماء هؤلاء الشهداء كانت هي السبيل للسادات لإقناع الشعب بإقامة سلام واعتراف دائم مع الكيان الصهيوني، وإخراج مصر من الصراع.
السنة الوحيدة التي عاشتها مصر فيها مستقلة القرار، كانت تلك سنة الرئيس
مرسي، فخلال ستين عاماً، لم يتوقف صبية "سي آي إيه" عبد الناصر والسادات والمخلوع والآن أبو فلاتر (عن تلقي أوامرهم من البنتاغون وسي آي إيه).
قلت كثيراً إن أضعف حلقات الانقلاب العسكري هي قزم الانقلاب نفسه، وهو لا يعدو مجرد دجاجة يذبحها أسيادها في أي وقت، ثم يلقونها في القمامة .
الحلول المستوردة لن تنتج سوى (طرطور) مدني، يحافظ على امتيازات العسكر، وعلى ثوابت العلاقة الاستراتيجية المستمرة منذ 60 عاماً، وأولها الالتزام بعدم مهاجمة الكيان الصهيوني .
لو لم يكن الثوار في الشارع مؤثرين لما مورست تلك الضغوط كلها من أجل إغلاق الجزيرة، ومحاولة إجبار الإخوان على القبول بتسوية، فالحل لن يأتي عبر طرطور مقبول أمريكياً، يحافظ على امتيازات الجيش، وإنما سيأتي من الشارع في مصر، ولن يكون إلا بعودة الشرعية كاملة، وكسر إرادة العسكر، حتى تستقل مصر التي حوّلها العسكر خلال60 عاماً إلى ولاية أمريكية.