كتاب عربي 21

انتخابات الاصطفاف الاجتماعي

1300x600
صفان متواجهان على قاعدة اجتماعية جلية؛ فقراء ومهمَّشون يواجهون طبقة السماسرة المتمكنين من دواليب الدولة الفاشلة التي ورثوها. هذه هي الصورة الواقعية التي تكشفها الاجتماعات العامة في الحملة الانتخابية الرئاسية التي تبلغ أوجها في الأسبوع الأخير. وتكشف مفردات الخطاب وتقنيات الدعاية ووسائلها هذين الصفين بما لا يدع مجالا للظن أننا نخوض معركة بناء طرفي معادلة اجتماعية لقادم الأيام: (فقراء ضد أغنياء). هذا الاصطفاف ذكَّر بسرعة بالاصطفاف زمن الثورة، عندما عسكر أنصار الثورة والتغيير في القصبة، وحاصروا رمز الحكم/ الإدارة/ النظام، بينما عسكر أنصار النظام القديم في القبة  - قصر الرياضة بالمنزه -، مطالبين بطرد الأقعار - وهو لفظ إقصائي جهوي عنصري -.

رفعت وقتئذ الشعارات الاجتماعية التي تتكرر اليوم بصوت أعلى؛ شعارات كشفت وتكشف طبقتين اجتماعيتين متناقضتي المصالح والأهداف، ولديهما أجندتان متناقضتان بحكم المواقع الاجتماعية التي  ينتميان إليها، وتحتوى كل الشعارات قدرا من التمويه للأهداف، وهو أمر مفهوم؛ فالجميع يختفي تحت شعار التجميع والمصالحة، خاصة تحت ضغط المسألة الأمنية التي وضعت على الطاولة، رغم أنها لم تكن على جدول أعمال الثورة في بدايتها.

 الاستثمار في الإرهاب أم الاستثمار في الحرية؟

من بث جرثومة الإرهاب واستثمر فيها سياسيا أفلح في تخويف القاعدة الناخبة، خاصة بعملية المسرحية في الضاحية الغربية، قبل ساعات معدودة من الانتخابات التشريعية، فضلا عن الاستفادة القصوى من عمليات الاغتيال السياسي، وضرب مؤسستي الجيش والأمن الوطني باغتيالات مؤلمة.

الاستثمار في الإرهاب حرَّف الاصطفاف الاجتماعي الحقيقي بين صف الفقراء، صانع الثورة المحتاج، إلى المزيد من الحرية ليبلغ أصواته بصبر وسلمية إلى سلطة القرار المنتخبة، وبين صف الأغنياء (البرجوازية/ الارستقراطية) وخدمها من الطبقة الوسطى المستعدة للتخلِّي عن منابتها الفقيرة؛ لتنال حظوة المشاركة في السلطة بصفتها غنيمة.

وهكذا صار الحديث عن الاصطفاف الاجتماعي الضروري، الذي يقود كل المواقف الانتخابية في التجارب المتقدمة (يمين ضد يسا) نوعا من الفخ السياسي، كلما نحا الخطاب نحوه اتهم بتفريق الشعب، والعمل على تعميق الشروخ، وهي شروخ اجتماعية قائمة فعلا، وليست شروخا متعلقة بالموقف من الإرهاب أو الأمن الوطني الذي ضرب حتى الآن الفقراء في الأرياف، ولم ينتقل بقدرة قادر إلى المواقع التي يمكن أن يخسر فيها أصحاب المصالح شيئا.

لإخفاء الاستثمار في الإرهاب حُمَّلَت الشعارات مضامين دفاع عن هيبة الدولة، وهي هيبة محل جدل؛ هل هي هيبة شكلية تتعلق بوجود المؤسسات (وهي مؤسسات لم تتفكك)؟ أم هيبة مظاهر مرتبطة أساسا بالحكم العضوض والتسلط المُجْبِر على الصمت المطبق (تقاليد 60 عاما من الدكتاتورية)؟

شعار هيبة الدولة يموِّه نزوعا إلى استعادة القبضة الحديدية على الشارع، وعلى قدراته الاحتجاجية، أي يتجه إلى تقليص الحريات، واستعادة أجهزة الضبط الأمني الذي يتذرع بالتسيب الإداري، ولم يكن التسيب إلا ثمرة عمل الدولة العميقة ضد الثورة، التي حرَّضت على التغيب المنهجي والإضرابات الوحشية، بما أفرغ الإدارة من كل نجاعة وظيفية. 

هذا الشعار جعل الدعوة إلى الحفاظ على الحريات مرادفة للدعوة إلى الفوضى، وهي تعمية حقيقية يستعملها النظام القديم لاتهام دعاة الحرية، وهم أبناء الثورة ومرشحها الأعلى صوتا.

رغم ذلك، فإن شعار حرية الشارع مقابل شعار هيبة الدولة يكشفان اصطفافا اجتماعيا، فالمحتاج إلى الاحتجاج هو الشارع المفقر الذي أفلت أسباب الحياة من بين يديه، بحكم انفلات الأسعار وغلاء المعيشة، أما هيبة الدولة فهي عملية ترهيبية متسلحة بجهاز إعلامي وبأيديولوجيا وبقدرات قوبلزية. وسيتم التفريط في كل المكاسب الاجتماعية باسم تحرير المبادرة الاقتصادية، وكل احتجاج على التفقير سيوصم بأنه ضد هيبة الدولة.

التكاذب بالاجتماعي

مرشحو النظام القديم يروِّجون أنهم قادرون على معالجة مسألة التنمية المختلفة بين المناطق، لكنهم لا يبنون خطابهم الاجتماعي على نقد تجربتهم الماضية في الحكم، بل يتعمدون أن ينسبوا الفشل والاختلال إلى تجربة الترويكا التي حكمت بعد الثورة، دون الإجابة عن السؤال لماذا قامت الثورة إذا كانت تجربتهم التنموية ناجحة؟ بما يجعل خطابهم كاذبا ومنافقا للقاعدة الناخبة، وهم الأعرف بأن صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة في مجال التدخل في سياسة الحكومة القادمة، مهما كان لونها السياسي، فالدستور حدد لكل مؤسسة مجالا للتدخل التنفيذي، وليس لرئيس الدولة أن يشرف بنفسه على تنفيذ السياسيات التنموية، وإن كانت له صلاحيات التوجيه التي ستصطدم بالضرورة باختلافاته مع الحكومة، إلا أن يكون الجميع من حزب واحد متفق على منوال تنمية، وهنا يغيب الحديث عن منوال تنمية اجتماعي، ليحل محله الوعد بالجنة المنتظرة دون تفصيل، لأن خطاب إعادة بناء المنوال يفضح العجز القديم، الذي أدَّى إلى الثورة.

منوال التنمية الاجتماعي المرتقب يعني في ما يعنيه: الضغط على طبقة رأس المال لتشارك من موقع متقدم في الانتشار الجهوي، وتحمُّل كلفته تأسيسا واستثمارا، وهذه الطبقة هي التي رفضت ذلك دوما، ولا نراها تحولت إلى طبقة رأس مال وطني مشغول فعلا بالتنمية الاجتماعية، لذلك يصبح التكاذب بالتنمية العادلة هو تعمية أخرى تفضح الاصطفاف الاجتماعي للطبقة الفاسدة التي تنضم لمرشحي النظام القديم على اختلافهم، لتأبيد وضع التنمية المختلة، بين مناطق محظوظة، وأخرى كخزان لليد العاملة الرخيصة.

انتخابات فقراء ضد أغنياء 

نصل إلى استنتاج واضح في هذه المرحلة: هذه الانتخابات هي انتخابات الأغنياء ضد الفقراء، رغم أن في ذلك إغماضا لبعض الفروق، إلا أن مظاهر الحملة وشعاراتها تؤكده حملة المال ضد الجيوب الفقيرة التي رفعت لمرشح الثورة شعارا على غاية من الدلالة "جيناك بلاش فلوس": أي أتيناك مناصرين بدون مال، فالمال القذر يبذل بسخاء على شراء الذمم، وتشويه العملية الديمقراطية.وقد نجح في اختراقها في التشريعية، ويستعدّ للرئاسية، فضلا عن أساليب الدعاية التي كشفت الغنى والفقر في لحظة مفصلية. لقد تبين أن المال الفاسد يقود حملة النظام القديم، ويضبط إيقاعها، فيلْبِسُ على الناس أمرهم. المال الفاسد والإعلام الفاسد بما فيه الإعلام العمومي يدمر الديمقراطية الوليدة، ويجعل مرشح الثورة أعزل تقريبا ليس بين يديه إلا المتطوعون من أنصار الثورة الذين يصلون الليل بالنهار للدعاية الفقيرة لمرشحهم.

لقد اتضح الصَّفَّان: صف الفقراء العزل، إلا من إرادتهم التي تحدت الرصاص ذات يوم عصيب، مقابل عصابات المال الفاسد المستعينة على أبناء البلد بكل غريب ينفق على إفساد الديمقراطية المخيفة في الشرق النفطي البعيد. إنها انتخابات طبقية/اجتماعية. هكذا بدأت الثورة وهكذا تتواصل بمرحلتها الانتخابية - وهذه الانتخابات جزء من الثورة ولو اتخذت لبوس الانتقال الديمقراطي -، وما لم نصل إلى وعي الاصطفاف بهذا المعنى، فإن الثورة تعدّ خميرة عودتها بقوة لا تبقى ولا تذر، وساعتها سنقف من جديد: صف الحرية - صف القصبة -، ضد صف هيبة الدولة القمعية. لقد قالها المنسحبون بخديعة من القصبة الثانية: إن عدتم عندنا، وإننا لنراهم عائدين، ولن تنطلي عليهم ثانية لعبة الانتقال الديمقراطي.