كتاب عربي 21

حماس: بين إنجازات الحرب وإخفاقات السياسة

1300x600
هناك تقييم سائد فلسطينيًا؛ بأن حرب (العصف المأكول) التي واجهت فيها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" العدوان الصهيوني على قطاع غزة (الجرف الصامد)، ومعها بقية فصائل المقاومة، لم تنعكس في نتائج سياسية، ترقى إلى مستوى الأداء العسكري الفذ والمبهر، أو إلى مستوى الصمود الأسطوري الطويل، أو إلى مستوى الكلفة الباهظة التي دفعها قطاع غزة، والتضحيات الجسيمة التي قدمتها فصائل المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس، بل إنه لا يمكن القول إن شيئًا قد تحقق من المطالب التي أعلنتها حركة "حماس" في خطاب مرتفع السقف، وعلى لسان مستوييها السياسي والعسكري.

الخلل الكامن في جوهر هذا التقييم مركب؛ وتتحمل "حماس" بخطابها المرافق للحرب المسؤولية عن بعض عناصر هذا التركيب، وذلك لربطها الواضح الحرب بأزمتها السياسية، وتعويلها الكبير على قدرتها على الصمود والمواجهة في بيئة إستراتيجية غير مواتية، وهو الأمر الذي ظهر في تقديراتها الداخلية، وخطاباتها المعلنة، والذي انعكس بدوره في ارتفاع التوقعات لدى جمهور المقاومة، وخاصة جمهور الحركة منه.

من المفهوم تمامًا خوض الحروب لتحقيق أهداف سياسية، ومن الممكن الدفاع عن القول الذي يذهب إلى أن الحرب وسيلة للسياسة، أو بتعبير كلاوزفتز المشهور: "الحرب هي مجرد امتداد للسياسة بوسائل أخرى"، لكن ولأن الحرب بطبيعتها مدمرة، ولا تخلو من نسبة مخاطرة عالية مهما بلغت الثقة بتقديرات القادة والمخططين، فإن القرار بالذهاب إلى الحرب هو قرار إستراتيجي، لا بد وأن ينبني على فهم دقيق لتفكير العدو، وتقدير متوازن للقدرات الذاتية، ومعرفة محيطة بالجغرافيا الإستراتيجية المتعلقة بموضوع الحرب، وفي حال كانت الحرب مفروضة على طرف آخر، فإن هذا الطرف الآخر لا بد وأن يبني خطابه المرافق للحرب، بما في ذلك الشق التعبوي منه، على ذات الأسس.

في هذه الحالة يمكن القول إن خطاب حركة حماس المرافق للحرب، والمعبر عن أهداف الحركة، سواء كانت معنية بالذهاب إلى الحرب، أو في موقع من حاول استثمار العدوان لصالحه، شكل عنصرًا في الخلل المركب الذي عانى منه تقييم نتائج الحرب الأخيرة على قطاع غزة.

إلا أن العنصر الأساسي في تركيبة الخلل هذه التي شكلت تقييم نتائج الحرب يكمن في العجز عن قراءة الحرب في سياقها، وذلك حين أخذ مفاهيم الحرب، والإستراتيجيا، والسياسة، وما تعلق بموضوعاتها، كاصطلاحات أكملت سطوتها على المعنى وانغلقت عليه في صورة نهائية، بما يجعل التحليل الصادر عن هذا التحديد النهائي أقرب للكلاشيهات المبتذلة، إذ إن الأليق بهذه المفردات بما هي كاشفة عن موضوعات شديدة التعقيد والسيولة، وجارية في تاريخ إنساني طويل ومتشابك، أن يُنظر إليها من زاوية مفاهيمية مفتوحة على التأويل المستمر الذي يلحظ عمق التناقض في السياق الذي تنجم عنه الحرب.

فإذا كان كلاوزفتز قد عرف الحرب على النحو الذي ذكرناه، ثم قرر لينين بأنه لا بد من فهم الطبيعة الطبقية للحرب "بتحليل الواقع الموضوعي للطبقات الحاكمة في البلدان المتحاربة"،  بينما يجعلها ماوتسي تونغ أكثر اقترابًا من طبيعة التعقيد الإنساني وحقائق تدافعه حينما يقول  إن الحرب: "هي أعلى أشكال الصراع لحل التناقضات بين الطبقات أو الأمم أو الدول أو المجموعات السياسية، عندما تتطور تلك التناقضات إلى مرحلة معينة"، فإننا نعتقد أن الحرب الأخيرة على قطاع غزة كانت حلقة في سلسلة التعبير الحتمي عن ذروة التناقض بين مشروع المقاومة في فلسطين، وبين مشروع العدو الصهيوني بالمنظومة الاستعمارية الكاملة التي تقف خلفه بما فيها المنظومة الإقليمية التابعة لها.
هذا الاشتباك الحتمي تعبر عنه الصياغة القرآنية الدقيقة: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"، فالقتال هنا حتمية كاشفة عن عمق التناقض الناجم عن العدوان، وقيام ضروري بالواجب، وفي الحالة الفلسطينية فإن استمرار العدوان على حاله يعني استمرار الكشف عن عمق التناقض بصعود الحرب الدالة على الوصول إلى الذروة في التناقض.

ثمة معنى مهم هنا فلسطينيًا؛ وهو أنه حيثما وجدت الحرب، المواجهة، الاشتباك، العنف، بين طرفي الصراع في مكان ما على أرض الصراع، فهذا يعني أن الطرف الفلسطيني الذي تقع عليه الحرب، من بين الأطراف الفلسطينية الأخرى، ويتصدى لمسؤولية مواجهة العدوان، هو الأكثر تناقضًا مع الطرف المعتدي، أي مع العدو الصهيوني، وبالضرورة مع مشروعه، ما يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ويكشف عن الخلل بأبعاده المتعددة فلسطينيًا: طبيعة الخلل، وحجمه، وعمقه، وهذا بحد ذاته يكفي لتحديد المواقع والمواقف فلسطينيًا بما يلغي تمامًا العادة الثقافية القميئة، وتلك السياسية الرخيصة، التي تساوي بين طرفي الحالة الفلسطينية، إذ لا يمكن أبدًا المساواة بين الطرف الفلسطني الذي يقف في ذروة التناقض مع العدو المحتل، والطرف الفلسطيني الذي يقف في مرتبة دنيا من هذا التناقض.. وهذا لا يعني أن قطاع غزة كجغرافيا هو الأكثر تناقضًا مع مشروع العدو، ولكن قطاع غزة كمقاومة (أي بالقوى النافذة فيه) هو الأكثر تناقضًا مع العدو.

يستشكل البعض مفردة الحرب في سياق التداول الفلسطيني حين التعبير بها عن تجلي ذروة التناقض في نمط مرتفع من العنف وغير مألوف سابقًا في المواجهات التي جرت داخل فلسطين، محتجًا بأن هذه المفردة تعطي تصورًا خاطئًا عن تكافؤ الطرفين، إلا أن هذا الاستشكال ينأسر في قيد التعريفات الاصطلاحية المغلقة، دون ملاحظة السياق الكامل للظاهرة.

فوجود قوة مقاومة نافذة في قطاع غزة، تمكنت من تعزيز نفوذها تأسيسًا على انتفاضة الأقصى، ثم انسحاب الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، ثم فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ثم استفراد حماس بحكم قطاع غزة من بعد الانقسام عام 2007، يجعل أنماط الاشتباك بالضرورة مختلفة وذات طابع أعنف في عدوان الاحتلال أو في ردود أفعاله، وهذا الطابع المستجد نتيجة هذه العوامل هو الذي صار يطلق عليه فلسطينيًا "الحرب" كما حصل في الحروب الثلاث التي شنها العدو على قطاع غزة، فالتعبير هنا ليس مقحمًا على الصراع، ولكنه منبثق عن تطور صيرورة الصراع خاصة من بعد قيام السلطة الفلسطينية، ففي الانتفاضة الثانية وسع العدو من عنفه بما يفوق ما كان في الانتفاضة الأولى بسبب من وجود سلطة فلسطينية تتمتع بقدر ما من التحكم بأراضيها، لكن وجود هذه السلطة والذي مثّل طارئًا على الصراع، لم ينف الأصل المتمثل بالمقاومة المعبرة وحدها عن ذروة التناقض مع العدو المحتل.

يمكن النظر سياسيًا إلى هذه الحرب بأنها كاشفة من ناحيتين؛ الأولى: كشفت المواقع الفلسطينية من حيث التناقض مع العدو المحتل، وبالتالي حددت المواقف نهائيًا من أطراف الحالة الفلسطينية وسياساتهم، والثانية: كشفت عن سياسات حركة حماس الخفية في إدارتها لقطاع غزة وحلولها للحصار المفروض عليها، وتمثل هذا الكشف في الأداء العسكري الرفيع الذي قدمه الجناح العسكري لحركة حماس في حرب (العصف المأكول)، وهو ما يعني أن تلك السياسات الخفية كانت ناجحة فيما تعلق بهذا الجانب على الأقل، الأمر الذي يوجب الحفاظ على هذا الجانب وتطويره.

إن عمليات الكشف هذه التي نجمت عن الحرب، وإعادة ترتيب الأولويات للفلسطينيين، وتعزيز الوعي بطبيعة التناقض والمسؤوليات إزاءه، ورفع الروح المعنوية بالأداء العسكري، واختراق سياسات تدجين الفلسطينيين في الضفة الغربية، كلها نتائج هامة وكبيرة، يمكن التعبير عنها بأنها نتائج سياسية، كما يمكن البناء عليها بإعادة موضعة الحرب هذه في خطاب المقاومة، كمعركة في صراع طويل ومفتوح، أثبتت قدرة الفلسطيني على تجاوز الحصار وشح الممكنات، حين توفر الإيمان والإرادة والعمل، خاصة وأن الحرب بما هي صراع لا يزال مفتوحًا لم تنته، وبالتالي فإن القدرة على تعديل النتائج للصالح الفلسطيني تبقى قائمة، وهذا بالتأكيد لا يلغي ما اعترى خطاب حماس المرافق للحرب من إخفاقات وتقديرات خاطئة ومبالغ فيها، كما أنه يفرض على الحركة اجتراح حلول أخرى غير المقاربات الجارية لتعزيز أزمة العدو، في مقابل الأزمة التي خلفتها الحرب لقطاع غزة وسكانه ومقاومته، فضلاً عن الأزمة الموجودة أصلاً بالحصار والعداء الإقليمي المعلن.