غريب أمر الإعلام
المصري، يتفنن في قتل كل فضيلة في نفوس الناس، وفي زرع كل رذيلة في المجتمع.
حين بدأ النموذج الأول لتوريث السلطة في الجمهوريات العربية في سوريا، وتولى بشار الأسد مقاليد الحكم بعد أبيه حافظ، وتم تعديل الدستور في عدة دقائق لكي تنال سوريا شرف رئاسته، أجواء التوريث في مصر اقتضت أن تصبح النغمة السائدة حينها (مصر مش زي سوريا) !
أما حين قامت
الثورة التونسية فلم يكن هناك من نغمة سوى (مصر ليست تونس)، الكل يكرر ويؤكد على أن مصر (مش زي تونس يا جماعة).
الغريب أن مصر أثبتت أن المشترك الإنساني بينها وبين تونس يؤهلها أن تثور، وثارت في الخامس والعشرين من يناير 2011، وأسقطت الطاغية المخلوع مبارك، ولكن المؤسسة
العسكرية في تونس تصرفت بشكل مختلف أمام كل ما حدث مذ خلع زين العابدين، وتبين لنا أن مصر (ليست تونس)، ولكن بطريقة أخرى !
بعد نجاح الموجة الأولى من ثورة يناير فُتِحَ لأول مرة في التاريخ المصري الحديث ملف العلاقات المدنية والعسكرية، وبدأ إعلام المجلس العسكري يحاول تبرير وجوده في السلطة، وتبرير وجود آلاف الضباط المتقاعدين في كل مكان في إدرات الدولة، لذلك بدأ الإعلام في ذلك الوقت باستحضار النموذج الإسرائيلي، فغالبية القيادات السياسية في إسرائيل من الضباط المتقاعدين (مع فروق كبيرة جدا مع النموذج المصري، وراجع مقالي "مصر ليست إسرائيل" المنشور بموقع مصر العربية بتاريخ 22-5-2014)، وأصبحت مصر – بقدرة قادر – مثل إسرائيل !
مع وصول الثورة لمحطة الدستور، بدأت محاولات مضنية لإيجاد أي شبيه، وإجراء أي قياس، بين مصر وبين أي مكان في العالم، ولكن فشل الجميع في إيجاد أي دستور لدولة محترمة في العالم تجيز أو تقنن المحاكمات العسكرية للمدنيين.
ما الحل إذن؟
الحل بسيط جدا .. إنها الخصوصية المصرية، والديمقراطية المصرية، وهذه الخصوصية تبيح لنا محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وتوجب علينا تحصين منصب وزير الدفاع حتى يصبح إلها من دون الله في الأرض !
بعد قليل جاءت الانتخابات الرئاسية، فوجدنا من يقول إن الفريق أحمد شفيق هو أردوغان مصر !
هكذا كتبت عنه صحف العسكر، وهكذا كان القياس الفاسد، الصفحة الأولى كاملة تُجْري المقارنة بالخط الأحمر، في الجريدة (اياها).
وحين فاز الدكتور مرسي بالرئاسة، وأصبحت تركيا شيطانا رجيما يدعم الإخوان المسلمين من أجل أن يسيطروا على الأرض والسماء، أصبح مرسي هو أردوغان (الشرير الحاقد على مصر)، ولكن بقيت معضلة أن مصر ليست تركيا في الصناعة أو الزراعة أو التعليم !
بعد الانقلاب العسكري أصبح جنرال الانقلاب مثل (آيزنهاور)، ولله في خلقه شؤون.
وأصبح المعالج بالأعشاب مثل الحاصلين على أعلى الشهادات، ومثل كبار المخترعين، ولكن حتى الآن لا أمل في أن يصبح الفقير مثل الغني !
وبعد أن كان جنرال الانقلاب مثل (آيزنهاور) أصدر البعض قرارا بترقيته، فأصبح مثل بعض أولي العزم من الرسل، والغريب العجيب أن الإخوان المسلمين في نفس اللحظة أصبحوا خوارج العصر و كلاب النار.
وتمضي الأيام، وما زالت المقارنات والتشبيهات ترهقنا جميعا، مصر ليست سوريا، وليست العراق، وليست ليبيا، وليست اليمن، والتخويف بهذه النماذج على أشده، ولا أحد يخبرنا لماذا لا نكون مثل ماليزيا، وسنغافوره، والبرازيل، والأرجنتين؟
لقد أصبح إعلام الانقلاب مسعورا، يخوف الناس من كل قيمة جميلة، بحجة أننا لسنا مثل هؤلاء، ويبرر كل رذيلة قبيحة لكي لا نكون مثل أولئك !
إعلام يحرض على الطلاب ويبرر القتل والتعذيب والفصل النهائي بحجة مستنكرين أن تصبح الجامعات مكانا لممارسة السياسة، ولكنهم لم يستنكروا جمع استمارات تمرد، ولم يستنكروا حراك الطلاب المعارض للإخوان منذ عامين، استمارات اليوم ومسيرات اليوم ليست مثل استمارة تمرد وتظاهرات الأمس القريب.
باختصار ... الإعلاميون الذين برروا للمصريين القتل والسحل والتعذيب والاغتصاب بدؤوا بالقفز من سفينة الانقلاب، وهذه ليست المرة الأولى التي يقفزون فيها من سفينة غارقة، بل هي المرة الثانية لبعضهم، والثالثة لآخرين !
العنتريات المعارضة التي نراها على الشاشات هذه الأيام من مذيعين عاشوا حياتهم أحذية ينتعلها كل نظام ليست أكثر من (خطة بديلة – plane B)، لأن لحظة الانهيار اقتربت لكل ذي عينين.
هذه المرة نبشركم بأن التوبة غير مقبولة، باب التوبة مغلق، والتسامح ممنوع، سيخضع الجميع لبرنامج عدالة انتقالية صارم، يحاسب فيه الجميع بالقانون، وليتحمل كل محرض نتائج ما قدم.
هذه ليست دعوة للثأر، وليست تحريضا على الفوضى، بل هي دعوة للاستقرار، والاستقرار – حسب خبرة الأعوام الماضية – لن يتحقق إلا بالعدل.
المخرج الوحيد أمام إعلاميي الانقلاب أن يصارحوا أنفسهم بأن هذه الموجة الثورية (ليست مثل يناير)، فاهربوا الآن لو كنتم تعقلون.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين.