مقالات مختارة

كتلة التململ الحرجة

1300x600
كتب عبد الله السناوي: أخطر ما يعترض مصر الآن أن القلق العام يرتفع منسوبه إلى حدود منذرة دون تنبه لعواقبه أو تأهب لدرء أخطاره.

تآكل يوما بعد آخر رهانات التماسك الوطني الواسع حول مشروع إنقاذ تحتاجه مصر بفداحة للخروج من أزماتها المتفاقمة.

يحضر الأمن وتغيب السياسة في أزمات تخرج عن نطاق طبيعته والقوة تلوح بقبضتها بينما الحوار يتوارى خارج الهامش.

الأمن بلا سياسة وهم مطلق ومشروع اضطرابات جديدة لا يحتملها البلد المنهك.

لا رؤية سياسية تساعد على التماسك ولا حسم لما هو ضروري من انحيازات وخيارات تنتصر لتضحيات المصريين فى طلب الحرية والعدل ولا حسم آخر لطاقم المساعدين والمستشارين في مؤسسة الرئاسة.

كل شيء يتحرك في الفراغ السياسي وأي إنجازات ممكنة قد تتعرض للتآكل السريع تحت ضغط عدم الحسم، فالقرارات الوزارية تصدر على النهج القديم انتصارا لحزب أصحاب المصالح وارتفاعات الأسعار تنال بقسوة من الذين أيدوا الرئيس وراهنوا عليه.

شيء من الشك فى صحة الرهان بدأ يتسرب، وهذا مؤشر لما قد يحدث تاليا ما لم تتدارك أسبابه.
على طريقته يدرك المواطن المصري العادي خطورة اللحظة وأن مصر مهددة بمصائر مماثلة لما يحدث فى دول عربية أخرى ومستعد أن يصبر إلى أقصى حد شرط ألا يدفع وحده الفواتير كلها.

الظلم الاجتماعي هو كلمة السر في اللعبة كلها.. إذا ما استقر على حاله فمن غير المستبعد أن تسحب الرهانات من فوق المائدة.

بذات القدر فإن نخبا فاعلة تؤثر الصمت تقديرا لخطورة اللحظة المصرية لكنها تتململ وقد يرتفع صوتها تاليا بأعلى من أي توقع بما يقلب المعادلات.

تغييب السياسة ملمح رئيسي في تجربة الحكم القصيرة للرئاسة الجديدة، لم يعلن فريقه حتى الآن فبدا أنه وحده هو كل النظام رغم أن الرئاسات تكتسب قوتها من وضوح رؤيتها ومستويات كفاءة مساعديها ومستشاريها.

بحسب المعلومات المتاحة فإن الرئيس درس ترشيحات لأسماء بعينها للانضمام إلى فريقه الرئاسي واستقر منذ أسابيع على أغلبها لكنه لم يعلنها.

هذا وضع لا يمكن تقبله لمدى آخر، فلا مصر عقمت في المواهب الكبرى ولا الحسم يحتاج إلى كل هذا الوقت.

في غياب الحسم غياب آخر للسياسة ووسائلها والحوار ولغته.

حتى الآن تجاهلت الرئاسة إدارة أي حوارات مع ممثلي الأحزاب والقوى السياسية رغم أنها أدارت أربعة حوارات مع الصحفيين والإعلاميين.

هذه ملحوظة لافتة في الأولويات الرئاسية.

في غياب الحوار شيء من الضجر الرئاسي من مستويات الأداء الحزبي العام وقلة ثقة في فاعلية القوى السياسية.

تناحرت الأحزاب الرئيسية ولم ترتفع إلى مستوى تحدياتها، لا حاولت أن تبنى رؤى وتصوغ برامج وتصنع توافقات فيما بينها ولا قدرت على صياغة تحالفات تمكنها من خوض الانتخابات النيابية المقبلة وحصد أغلب مقاعدها فجرى الاستهتار بها على نحو يخجل تاريخها.

غياب الحوار اتخذ دليلا على النزوع لاستبعاد السياسة ووسائلها أو ربما كراهية السياسة، فإذا لم تكن الأحزاب على مستوى تحديات المرحلة فإن فتح المجال العام لتبادل الآراء والمعلومات يؤدى بالوقت إلى بناء نخب سياسية جديدة وحياة حزبية أقوى وأفضل والحياة الحزبية من متطلبات الديمقراطية فلا ديمقراطية بلا تعددية ولا تعددية بلا أحزاب.

رغم التفكك والوهن فإن الأحزاب الرئيسية عندما اجتمعت كلمتها فى «جبهة الإنقاذ» للتصدى لتغول جماعة الإخوان المسلمين على الدولة والمجتمع بعد الإعلان الدستوري الذي فوض الرئيس الأسبق «محمد مرسي» سلطات شبه إلهية كانت العنوان الأكبر والأهم للغضب الشعبي الذي وصل ذروته في(30) يونيو.

نقد الأحزاب وتشريح أسباب ضعفها شيء والتجاهل شيء آخر تماما ثمنه قد يكون فادحا على مدى منظور إذا ما تفاقمت الأزمات لسبب أو آخر لتجاهل الحقائق الجديدة والوسائل السياسية معا.

ليس ممكنا العودة للماضي بالمال والنفوذ أو بالقوة والإرهاب دون أن تكون الأثمان باهظة، فالعودة إلى الإخوان مشروع انهيار كامل للدولة والعودة إلى سياسات «عهد حسنى مبارك» فى زواج السلطة والثروة مشروع انهيار آخر.

في الإلحاح على إنكار يناير ورد اعتبار «حسنى مبارك» الذي أطاح به شعبه تجاهل لحقائق كبرى فمصر قد تغيرت بعمق.

هذا كلام يحتاج إلى الحسم والتردد فيه ينال من صورته وشعبيته معا ونتائجه كارثية.

إذا كان هناك من لا يريد أن يصدق فالمسألة قد لا تستغرق شهورا.

بروز «وجوه مبارك» تشهيرا بيناير وتأهبا للعودة إلى سياسات الماضي يؤدي إلى إضعاف هيبة
الرئاسة من ناحية وفتح المجال أمام الإخوان المسلمين لإعادة التمركز السياسي من ناحية أخرى.

اللعب بالنار لن يمر بدون ثمن يُدفع.

كتلة التململ الحرجة قد تخرج عن صمتها الطوعي على أي أخطاء تجرى لإتاحة الفرصة كاملة أمام الرئيس للتصرف فى الملفات الصعبة إلى الجانب الآخر بجوار كتلة النار، وهذا مشروع انهيار محقق للنظام والمجتمع معا، فالبلد لا يحتمل اضطرابا جديدا أو تصدعا آخر في بنية دولته التي تعافت بالكاد دون أن تستوعب أن تغييرا عميقا قد جرى وأنه لا يمكن فى كل حال العودة إلى الماضي.

من المخجل حقا عودة الوجوه القديمة التي حوكمت بالفساد إلى المشهد السياسى كأنه لم تقم ثورة فى يناير أطاحتها ولا ثورة فى يونيو لإطاحة أخرى للإخوان دون أن يكون معناها بطاقات دعوة للعودة.

من مغبة تغييب السياسة أن أطرافا راهنت على (30) يونيو بدأ صوتها يرتفع فى حوارات مغلقة قلقا على المستقبل، لا تريد أن تعارض لكنها لا تقدر على أن تصمت، تطلب المشاركة السياسية ولغة الحوار وفتح مسام المجتمع للسياسة لكن لا أحد يستجيب.

لا أحد بوسعه أن يوافق على الطريقة التي تدار بها أزمة الدولة مع شبابها التي وصلت إلى قطيعة كاملة، كلام عن تعديل لقانون التظاهر بما يوافق ملاحظات القومي لحقوق الإنسان لا يحدث وحوار معلق فى الأمنيات دون أن يستجيب لما هو دستوري وقانوني من حقوق أساسية فى حريات التعبير.

ولا أحد بوسعه أن يتقبل ما يجرى فى الجامعات من عسف وصل ذروته فى إلغاء السياسة بحل الأسر التي لها شأن بالقضايا العامة، وهذا وهم كبير يفضي إلى تحطيم صورة الذين يقدمون عليه دون أن يحققوا أي هدف، وفي استجلاب شركة أمن خاصة لتفتيش الطلاب على بوابات الدخول بطريقة مرهقة ومستفزة بطوابيرها الطويلة بما دعا إلى غضب أوسع من طاقة طلاب الإخوان، كأن السلطات تحرض على الانفلات أكثر مما يحرض خصومها.

الجامعة من مؤسسات الدولة المدنية الحديثة وفي التضييق على حرية البحث العلمي وحق الأساتذة في التعبير عن آرائهم طالما التزمت السلمية مشروع عودة للدولة الأمنية وانهيارات جديدة في المؤسسات التعليمية.

هناك ضرورات للحسم مع الذين يحرضون على العنف ويروعون الجامعات بصورة لا مثيل لا في تاريخها دون أن يمتد إلى النيل من الحق الدستورى فى التعبير عن الرأي ونقد رئيس الجمهورية نفسه كما نقد غيره على مدى نحو نصف قرن، فلم تقم مصر بثورتين لتحصين الرئاسات واعتبار من ينقدها مستوجبا الفصل.

هذا كله كلام في السياسة طبيعي ومشروع وغيابه يفتح أبواب جهنم على احتمالات أن تفلت الأزمات من عقالها وتقترب كتلة التململ الحرجة من كتل النار المشتعلة فى مصر والمنطقة أو أن تنقلب المعادلات كلها وتتهدد الدولة فى وجودها.