كتاب عربي 21

مصر في عصور "الظلام"

1300x600
تحدثت منذ عام تقريبًا أنّ المسار الانقلابي الذي اتخذه قائد الانقلاب العسكري في مصر وزير الدفاع "عبد الفتاح السيسي" لن يُقدم خيرًا لمصر وسيعجز عن إدارتها، وذلك نتيجة لحالة انعدام الاستقرار السياسي الذي يخلقه انقلاب عسكري على سلطة ديموقراطية مُنتخبة في أعقاب ثورة شعبية عظيمة، وفي مرحلة تقود فيها السياسة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. بالإضافة إلى أنّ حجم التحديات والمُعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها مصر عقب ثورتها تحتاج إلى اصطفاف وطني وشعبي حقيقي لتحمل تبعات الإصلاح الثقيلة وهو ما لن يستطع تحقيقه نظام لم يختاره الشعب طواعية اختياراً حرًا نزيهًا، ولا يتمتع بشرعية سوى شرعية الرصاص والقهر.

 كما حذرت منذ أكثر من خمسة أشهر من أنّ إحدى التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة للمسار الانقلابي ستكون في مجال الطاقة، وأنّ قطاع الطاقة في مصر سيشهد أزمة خانقة ستتفاقم لتصل إلى مرحلة غير مسبوقة عبر تاريخ الدولة المصرية، مما سيُعقد الأمر وستكون له بالطبع تبعات سلبية خطيرة على القطاعات الاقتصادية المختلفة للدولة، ناهيك عن القطاعات الخدمية المتعلقة بمعاش المواطنين. وذكرت تحديدًا أنّ مصر مرشحة ولأول مرة في تاريخها لأن تحدث بها ظاهرة "السواد" أو "BlackOut"، وهو المصطلح الفني الذي يعني خروج معظم شبكات الكهرباء عن الخدمة في معظم أنحاء الدولة. وهو تحديدًا ما حدث الخميس الماضي 4 أيلول/ سبتمبر 2014 عندما انقطع التيار الكهرباء عن معظم أنحاء الجمهورية من الساعة السادسة صباحاً ولمدد تراوحت من أربع ساعات متصلة في بعض المناطق في حين استمرت لست ساعات وعشر ساعات واثنتي عشرة ساعة متصلة في مناطق أخرى من الجمهورية.

 إنّ أحد الأحاديث النادرة التي صدق فيه قائد الانقلاب العسكري في مصر هو عندما كان يُخادع الشعب المصري والرأي العام قبيل الانقلاب على إرادته، مُحاولًا نفي الشك والريبة عن نفسه في تخطيطه للانقلاب حين قال: "الجيش مش ممكن ينزل الشارع.. إنت عارف يعني إيه الجيش ينزل الشارع؟! ده أمر خطير جدًا.. جدًا جدًا. لو الجيش نزل الشارع ابقى افتكر مصر بعد 30 أو 40 سنة".

لتتحقق نبوءة السيسي وتدخل مصر عصور "الظلام" بكل ما تحمله الكلمة من معاني، عندما قرر هو نزول الجيش إلى الشارع للقيام بالانقلاب العسكري. فمصر لم تدخل فقط عصور "الظلام" المعنوي من قبيل الجرائم ضد الإنسانية والمجازر غير المسبوقة التي شهدتها مصر منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 ومن اعتقالات وتعذيب وتشويه وتخوين وبث الكراهية ومُصادرة الرأي الآخر و"تقنين" الانتهاكات للحقوق والحريات وتطويع المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والدينية والإعلامية الرسمية لتحقيق كل هذا؛ بل إنّ مصر بالفعل دخلت عصور "الظلام" بمعناها المادي أيضًا، وهو ما حدث فعليًا لأول مرة في تاريخ مصر الحديث بهذا الشكل على يد سلطة الانقلاب العسكري في الرابع من أيلول/ سبتمبر 2014 الماضي، ولا أعتقد أنها ستكون المرة الأخيرة.

 وفي محاولة لرصد الخسائر الاقتصادية الناجمة عن حادثة "السواد" أو "Black Out"، التي وقعت الخميس الماضي، فقد أعلنت العديد من القطاعات الاقتصادية والخدمية بالدولة، بقطاعيها العام والخاص، عن خسائر اقتصادية فادحة منها على سبيل المثال لا الحصر: مصانع الحديد الصلب، مصانع الأسمنت والبتروكيماويات، مصافي تكرير البترول ومحطات توزيع الوقود، قطاعات النقل والمواصلات والموانئ، قطاعات الاتصالات، القطاع المصرفي، المطاحن والمخابز وغيرهم.
 
وعلى صعيد التقييم الكمي للخسائر،  فقد تعددت الإحصائيات والتقديرات المبدئية لمقدار الخسائر، ففي حين نشرت بوابة القاهرة الإخبارية يوم الخميس 4 سبتمبر تصريحًا منسوبًا لخبير اقتصادي حكومي (رفض الإفصاح عن اسمه، في الأغلب مخافة التنكيل به) قدر فيها الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الخروج الكلي لشبكات الكهرباء من الخدمة في معظم أنحاء الجمهورية  بـ 2 مليار دولار في الساعة و8 مليارات دولار - أي ما يُعادل قرابة الـ 60 مليار جنيه - نتيجة لأربعة ساعات من الساعة السادسة إلى العاشرة صباحًا بحسب تقديرات الخبير الاقتصادي الحكومي. في حين تحدث مراقبون آخرون في تصريحات مختلفة عن خسائر قيمتها 4 مليارات جنيه في بعض التصريحات، وعشرات المليارات من الجنيهات في تصريحات أخرى.  

 بالطبع لا يُمكن الجزم بالقيمة الحقيقية للخسائر الاقتصادية الناجمة عن تعرض مصر لظاهرة "السواد" الخميس الماضي، خصوصًا في ظل هذه الحالة من انعدام أي نوع من المصارحة مع الشعب بل الكذب الإعلامي المُمنهج الذي وصل به الحال من العبث والغباء المتعمد  للدفاع عن فشل سياسات سلطة الانقلاب، باتهامه لوزير كهرباء سلطة الانقلاب بأنه "إخواني" أو "خلية إخوانية نائمة" على أقل تقدير،  وأنّ مصر تتعرض لمؤامرة من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين على الكهرباء، في مشهد يُحيلنا أنّ عصور "ظلام" أخرى كتلك التي عاشتها أوروبا في القرون الوسطي، والتي كانت تتحكم فيها الكنيسة في الدولة.

إنّ السبب الرئيسي فيما يحدث من "ظلام" في مصر هو تلك الحالة من "الفشل" التي تتسم بها سلطة الانقلاب العسكري منذ إعلان الانقلاب في الثالث من يوليو، ليس فقط على المجال الإنساني والسياسي والمُجتمعي، بل بالطبع وكما نقول دائمًا.. إنّ الفشل أيضًا سيكون ممتدًا للجانب الاقتصادي والقدرة على تلبية حاجات المواطنين الأساسية بالضرورة، ناهيك عن الفشل عن تحقيق الوعود الزائفة التي روّج بها الانقلاب لنفسه على غرار "الشعب يُريد من يحنو عليه " و"أنا عايز أغني الشعب".
 المؤسف أنّ "الفشلة" الذين اغتصبوا السلطة على أشلاء المصريين المُدافعين عن الديموقراطية والحياة الكريمة المحترمة، مازالوا يُسخّرون أذرعهم الإعلامية بتوجيه من "جهاز الشؤون المعنوية للقوات المسلحة" و"الأجهزة الأمنية والمخابراتية" لتعليق فشلهم على شماعة "الإخوان" واختراقات "الإخوان" لأجهزة الدولة التي يُسيطرون على كل مفاصلها لأكثر من عام. بالطبع هم في مأزق شديد "الظلام" أيضًا، إذ إنهم لا يستطيعون إلا أن يُبرروا لقائد الانقلاب المجرم فشله وفشل الدولة الذي تسبب به انقلابه، والذي بات جليًا واضحًا، فهم يُساقون لتغييب وعي الجماهير سَوقًا. أما الأكثر أسفًا أنّ قشرة من بعض المثقفين والطبقات الاجتماعية الأكثر ثقافة وتعلمًا بمقياس "الشهادات الدراسية" يُطأطئون رؤوسهم مصدقين أو متعامين أو متواطئين.. أو على أقل التقدير "معاندين"، لا يُريدون أن يلعنوا هذا "الظلام" الذي قادهم إليه الانقلاب وسياساته.

 والسؤال للجنرال قائد الانقلاب: كم من الأموال جمعت تسولًا من جيوب بعض المصريين "على جنب كده" في صندوق نذورك وجبايتك؟! وكم من الأموال تسبب مسارك الانقلابي من خسارة اقتصادية يوم الخميس الماضي فقط؟!
 وكأن السيسي يتسول من جيوب بعض المصريين ليُغطي المزيد من الخسائر الاقتصادية الجسيمة لانقلابه الآثم والفاشل... و"تحيا مصر"...