كتاب عربي 21

عجل المقاومة المقدس!

1300x600
بنو إسرائل الذين عبدوا العجل، كانت لهم سابقة جهادية، فهم ذاتهم الذين أوذوا من قبل أن يأتيهم موسى ومن بعد أن جاءهم، وقد صبروا على ذلك وهم يعيشون آيات الله بكامل طاقتهم النفسية والجسدية، حتى ما أن تركوا وراءهم البحر الذي انفلق "فكان كل فرق كالطود العظيم" عبدوا عجلاً من ذهب وكأنهم ما شاهدوا وما عرفوا، ولكن عجلهم الذي عبدوه فيه شيء من أثر الرسول، وتحلل من الذهب الحرام الذي حملوه من مصر، وهكذا أولوا فعلهم أو برروه، وبهذا صار العجل أهم من الرسول الذي يأتي بالوحي، وأهم من الرسول الذي ينزل عليه الوحي وقد حررهم به ورأوا عن طريقه المعجزات!

نموذج "العجل المقدس"، واحد من النماذج التفسيرية التي قدمها القرآن لفهم الانحرافات البشرية من خلال العرض المتنوع للمجموعة البشرية التي عرفت بـ "بني إسرائيل"، وهذا النموذج يوضح نمطًا خاصًا من الوثنية، يتحول فيه الأصل أو المبدأ أو المقولة التأسيسية إلى أيقونة (رمز، صورة، تجسيد في إنسان أو كيان أو ملموس مادي)، وبمرور الوقت تصبح الأيقونة أهم من الأصل، فهي لم تعد مجرد تعبير رمزي عنه بل هي هو، وبالتالي فإن كل ما يصدر عن (الأيقونة، الصورة) من قول أو فعل صادر عن الأصل الذي ترمز إليه، ويترتب على ذلك بالضرورة تخلق دوغمائية شرسة عند الجمهور تحديدًا (عبيد الأيقونة) الذين يشاهدون العالم عبر الأيقونة، لا بالنظر المباشر إلى العالم بما فيه من براهين ودلائل.

ونموذج "العجل المقدس" ظهر فجًا وصادمًا في حالة "بني إسرائيل" وبالغ الدلالة على القعر الوثني الذي يمكن أن يسقط فيه الإنسان؛ ولكنه وُجد في كل المجموعات البشرية، قبل "بني إسرائيل" وبعدهم، فالبشر سبق وأن رمزوا لآلهتهم أو مثلهم العليا في أصنام أو صور صارت هي الآلهة بمرور الوقت، وحتى اليوم فإن الفكرة التي تتأسس عليها الأحزاب والحركات تتوارى خلف الحزب، وكثيرًا ما لا يبقى من ظروف التأسيس إلا الشعار والمشاعر بينما تموت الفكرة في صورة الحزب المجسد لها، وتبدو هذه المفارقة لافتة في الأحزاب المنشقة أو التي تبرر وجودها على نقد أحزاب قائمة، حيث لا يبقى من الأحزاب الجديدة مع تقادم الزمن إلا المشاعر السلبية تجاه التي سبقتها، بينما تتحول المقولات التأسيسية إلى شعارات لتجديد الشرعية حتى لو خالفتها الممارسة العملية، دون أن يثير ذلك الأتباع الذين تنطمس الحقائق في وعيهم بفعل بريق الصورة (بريق ذهب العجل المقدس).

ومن تمظهرات "العجل المقدس" هذه الأيام؛ صورة المحور الإيراني في وعي أتباعه، فقد جُعلت المقاومة أصلاً مقدسًا، ثم صَوَّرَ المحورُ نفسه أيقونة المقاومة (الصورة الحصرية التي تدل على الأصل المقدس)، وتقدست الصورة مع مرور الوقت كونها الدالُّ الحصري الوحيد على المدلول المقدس، كما ادعى المحور لنفسه واشتغل على تكريس صورة الادعاء، وبهذا انعدمت المسافة بين الرمز والأصل، والصورة والحقيقة، وصار المحور هو المقاومة، وصارت أفعاله كلها مقاومة حتى لو تعارضت مع المقاومة، لأنه الأصل الذي تفيض عنه المعاني وتصدر عنه التشريعات.

ونموذج "العجل المقدس" يوضح أنه من الوارد جدًا أن تمنع الصورة عن رؤية الحقيقة، فكل الآيات التي رآها بنو إسرائيل انطمست في وعيهم الذي هيمن عليه بريق العجل الذهبي المصنوع من حليهم، وبات خوار العجل أقوى من الآيات الكبرى التي رأوها، وكل مقاومة "حماس" في فلسطين وتصدرها مشهد معركة (العصف المأكول) تبدو عديمة الأهمية في وعي أتباع المحور الإيراني بالمقارنة مع دعم محورهم للمقاومة في فلسطين، حتى لو كان هذا الدعم متوقفًا عن "حماس" تحديدًا منذ ثلاث سنوات تقريبًا، وشكر "حماس" لدول يتخاصم معها المحور في هذا الوقت، بعد أن كان في صداقة معها، يلغي مقاومة الحركة ويجعل كل ما ظهر منها في المعركة كأنه والعدم سواء، ولأن شكر مشعل لإيران لم يكن بالمستوى الذي افترضه أتباع المحور ولم يذكر أيضًا حزب الله، فإنه قد تأكد أن "حماس" لم تعد فصيلاً مقاومًا!

و"حماس" لم تعد فصيلاً مقاومًا لدى أتباع هذا المحور، حينما اتخذت موقفًا متمايزًا من الموضوع السوري، وبهذا اتضح أن المقاومة لدى أتباع المحور الإيراني هي محورهم لا فعل المقاومة نفسه، فمن الممكن أن تمارس المقاومة بكل أشكال الممارسة كما في حالة "حماس" ولكنك لست مقاومًا ما اختلفت مع "عجل المقاومة المقدس" والذي يحق له أن يسمي قتل عشرات الآلاف وتهجير الملايين في سوريا مقاومة، والتحالف مع أمريكا في العراق مقاومة، والعبث باليمن مقاومة، والعلاقة الحميمة مع قطر وتركيا قبل الأزمة السورية مقاومة، وبعد الأزمة خيانة، والعمل في قناة الجزيرة قبل الأزمة مقاومة، وشكر الجزيرة بعد الأزمة خيانة.. إلى آخر ما يصعب إحصاؤه من تناقضات المحور التي لا تبدو متناقضة في وعي أتباعه لأنها صادرة عن المقدس!

ولكن مستوى الأداء القتالي لـ "حماس" بعد الحرب الأخيرة، وما أثبته هذا الأداء من عمل متواصل خلال السنوات الماضية، كان أكبر من أن يحجبه بريق "عجل المقاومة المقدس" الذي بهت بعد أن مرّ على آخر معاركه مع العدو ثماني سنوات، واختلط بأوحال الإقليم وانطفأ بعضه بدماء السوريين والعراقيين، ولم تعد سردية "خيانة حماس" للنظام السوري، أو ادعاء مغادرتها "مربع المقاومة" كافية لطمس الحقائق على الأرض، فكان لا بد من إعادة تأويل المشهد بإرجاعه إلى دعم المحور للمقاومة التي اتُهم فصيلها الأكبر بأنه غادر المقاومة!.

ربما هي أول مرة في التاريخ يصير فيها مصدر السلاح أهم من حامله والمقاتل به، ولكن ما يبدو عجيبًا سهل التفسير؛ فطالما أن المقاومة "عجل مقدس له خوار" هو المحور الإيراني، فإن هذا المحور أهم من مقاومة "حماس" في فلسطين، المحور كذات وبما يصدر عنه من ادعاءات وبما يقدمه من دعم مفترض، أهم من مقاومة "حماس" في فلسطين، ولأن "حماس" لم تشكر هذا المحور بالقدر الكافي، فإن الذين "أشربوا في قلوبهم العجل" لن يروا من مشهد المعركة إلا جريمة الشكر المركبة: شكر قطر وتركيا والجزيرة، والتقصير في شكر المحور الإيراني!