ما الفارق بين المتطرفين الذين يصنّفون «
إرهابيين» وبين متطرفي الكنيست
الإسرائيلية؟ هؤلاء يمارسون الجنون من خلال «برلمان» وكل ما يقفز إلى أذهانهم من نزوات يمكن أن يصبح تشريعاً خصوصاً إذ أمكن ربطه بإفتاء مستوحى من التوراة، أما الآخرون فمنفلتون ومتفلتون ويكفي أن يكون لديهم إمام أو «أمير» تهيّأ له أن تبحّره في التفاسير القرآنية جعل منه «عالماً» له على الآخرين حق أن يسمعوا ويطيعوا حتى لو طلب منهم ارتكاب القتل العاري واستخدام السلاح لاضطهاد الناس بذريعة إرجاعهم إلى جادة الصواب.
في الحالين هناك انحدار في القيم على المستوى القيادي يجعل هؤلاء وأولئك يطفون على السطح فيفرزون لهم مكاناً على هامش المجتمع لا يلبث أن يتوسّع ليصبح ندّاً للسلطة أو يتمأسس كما في إسرائيل فيغدو موجِّهاً لقراراتها.
ففي خضم الجدل على «الإرهاب» والصراع على تعريفه، كان يقال دائماً: إن القهر الذي تعرّض له العرب والمسلمون، بسبب التجبّر الإسرائيلي في فلسطين والانحياز الأميركي المتفرّد بـ «أيديولوجيته الصهيونية»، يشكّل خلفية موضوعية لفهم ظواهر التطرّف والعداء للغرب وللولايات المتحدة.
وكان يقال أيضاً: إن مكافحةً جدية لـ «الإرهاب» لا بدّ أن تبادر أولاً إلى حل «عادل» للقضية الفلسطينية. على الجانب الإسرائيلي جرى تلقّف «الإرهاب» كما لو أنه «هدية» غير متوقعة لآلة البروباجندا التي استهلكت كل ما لديها في عملية تشويه العرب، ومع غرق «الربيع العربي» في لجج الانقسامات الداخلية لم تعد إسرائيل مضطرة لافتعال التشويه؛ لأنه بات من المعطيات الطبيعية. وكما يستغلّ الإرهابيون هذا الوضع لمشاريعهم الخرقاء يستغلّه أيضاً متطرفو الكنيست لمراكمة المكاسب وعدم إضاعة الوقت في انتظار سلام لا يريدونه أصلاً مع الفلسطينيين حتى لو تطلب الأمر إغضاب الحليف الأميركي بل حتى لو تطلّب المس بمنشآت العبادة ورمزيتها.
بين ما يسمّى «الدولة الإسلامية للعراق والشام» والدولة العبرية وجوه شبه نجدها في الكثير من النوازع والأهواء. ففي «الدولتين» يشار إلى المتدينين المهووسين على أنهم «أنقياء» في تقواهم وأصوليتهم، والواقع أنهم يتعاطون السياسة كأي «مؤدلجين» آخرين بل يجيزون لأنفسهم معظم الموبقات والكبائر التي تعفّ عنه السياسة المتعارف عليها أو مدّعوها.
وقد بلغ تنظيم «
داعش» في محافظة الرقّة السورية أخيراً حدّ الإعلان عن إلزام المسيحيين بدفع «الجزية» لـ «تأمين حمايتهم»، بل حددوها وفقاً لما اتبع في العهود الأولى للإسلام حرفياً، لكن الفارق أنه حتى لو رضخ «أهل الذمة» ودفعوا لن يكونوا آمنين.
فعدا أن «الداعشيين» و»أمراءهم» ليسوا خلفاء راشدين، فإنهم فوق ذلك يؤكدون أنهم لا يعرفون في أي عصر يعيشون. وإذ أوغلوا في سفك الدماء، وبوحشية لا تضاهيها سوى وحشية النظام السوري الذي خرجوا من صلبه، فإنهم لا يُؤتمنون ولا قيمة للعهود التي يقطعونها.
وكما يحاول «الداعشيون» تغيير التاريخ أو تطبيقه بل إفساده بنهج استعادي متهوّر، كذلك يحول «ليكوديّو» إسرائيل والكنيست.
هذا ما أمكن التعرّف إليه من خلال النقاش الذي فتح بين «البرلمانيين» حول مشروع قانون لـ «بسط السيادة على الحرم القدسي».
وكان صاحبه موشي فيجلين قام قبل أسبوع بـ «زيارة» لباحة المسجد الأقصى، مستبقاً النقاش، ومصحوباً بكاميرا ليتصوّر وهو يقول: إنه يريد لليهود أن يفعلوا مثله وأن يأتوا للصلاة في هذا المكان الذي يُمنع أصحاب الحق الفلسطينيون من زيارته بحكم الاحتلال ويُمنع أهل القدس معظم الأحيان من المجيء للصلاة فيه.
كانت «زيارة» مماثلة للمجرم أرييل شارون أشعلت انتفاضة عام 2000. كانت تلك استباحة مكشوفة واستفزازية انزلق معها الناخبون إلى التطرف، ومنذ ذلك الوقت لم يغادروا هذا المربع الأسود، فكافؤوا شارون ثم إيهود أولمرت فبنيامين نتنياهو.
ما يطالب به فيجلين هو في صلب أيديولوجيتهم السياسية، إذ قال لأعضاء الكنيست: «أخذنا الغلاف (حائط البراق) ورمينا الهدية التي في داخله (الحرم القدسي)»، مطالباً الحكومة بـ «السماح لكل يهودي بحرية الحركة داخل الحرم «، وتبعه شولي موعلام مذكراً نتنياهو بأنه قبل عشرين عاماً كان يدعو للسماح لليهود بالصلاة في الحرم الذي «هو حق لإسرائيل والشعب يهودي وليس للأردن أن يكون وصياً عليه».
ولم يكن ممثلو أحزاب اليمين الأخرى («إسرائيل بيتنا» و»البيت اليهودي») أقل تحريضاً، فقبل ذلك كانوا أقرّوا قانوناً يجيز صراحة التمييز بين المسيحيين والمسلمين في نيل فرص العمل، إلى حدّ أن الخارجية الإسرائيلية نفسها انتقدت هذا القانون الذي لا يمكن الدفاع عنه في المحافل الدولية، ومعلوم وزيرها هو أفيجدور ليبرمان وأن نواب حزبه شاركوا في تمرير ذلك القانون.
فيما تمضي «حكومة المتعصبين» في تقويض مسعى وزير الخارجية الأميركي لطرح «مشروع سلام» لا يتردد المتعصّبون خارجها في محاولة تخريب معاهدات السلام التي سبق إنجازها. فمعاهدة وادي عربة (1994) تنص على احترام الوصاية الأردنية المستندة إلى مبايعة العام 1924 للشريف الحسين بن علي، والتي تشمل أيضاً بطريركية الروم الأرثوذكس بموجب قانون خاص صدر عام 1958.
ورغم أن نتنياهو يصطنع النأي بالنفس عن مشروع فيجلين فإنه يؤيده ضمنياً لكنه لا يرى الوقت مناسباً لتفجير قضية كهذه ستشعل انتفاضة جديدة.
طبعاً لا يمر بعقل نتنياهو أن مجرد طرح المسألة انتهاك فاضح لمقدّسات لا علاقة لليهود بها. لكن كلمة السر في إسرائيل هي أن العرب والمسلمين منشغلون بأحوالهم والعالم منشغل بهم، ولا بأس من استغلال الظرف لانتزاع ما لا ينتزع خلسة (السيادة) مثلما كان الاستيلاء على الأرض اغتصاباً وسرقة. الليكوديون كـ «الداعشيين» ينقضون العهود ولا يُؤتمن لهم.
(عن صحيفة العرب 3 آذار/ مارس 2014)