"نحن صدرنا الثورة لمصر وهم يريدون استيراد الانقلاب"..
هكذا لخص زعيم حركة
النهضة في
تونس راشد الغنوشي المشهد الحالي في بلاده، على ضوء مطالبات المعارضة بحل الحكومة والمجلس التأسيسي، وبالتزامن مع تصريحات للمعارضة لا تستبعد تكرار النموذج المصري في تونس، وهو ما فُهم على أنه دعوة للجيش التونسي للتدخل.
التركيبة السياسية:
تغيّرت تشكيلة الأحزاب والكتل البرلمانية، بحيث تأسست أحزاب بعد انشقاقات، وتشكلت كتل نيابية جديدة، وخرج نواب من كتل وانضموا إلى أخرى، ما غيّر تركبية الكتل بشكل كامل تقريباً، باستثناء كتلة "النهضة" التي انضم إليها ثلاثة نواب لتصبح 92 نائباً. فمثلاً، انخفض عدد نواب الحزبين الشريكين في الحكومة، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، إلى 12 عضواً لكل منهما، في حين أنهما دخلا المجلس بـ29 و26 نائباً على التوالي. وهذا أدى إلى انخفاض تأييد الحكومة في المجلس التأسيسي إلى حوالي 54% بدلاً من قرابة 63.5%.
ومن بين الأحزاب التي تشكلت حديثاً "نداء تونس" برئاسة رئيس الوزراء السابق الباجي السبسي. وانضم للحزب أعضاء في الحزب الحاكم سابقاً: "التجمع الوطني الدستوري". واعتبر السبسي أن قانون العزل السياسي الذي يستبعد المسؤولين في نظام زين العابدين بن علي؛ يستهدفه وحزبه. ووافقت "النهضة" على تأجيل إقرار القانون لتخفيف الاحتقان.
وضمن سياقات الأزمة، تشكلت ائتلافات سياسية. ففي تموز/ يوليو 2013 أعلن عن تشكيل "
جبهة الإنقاذ الوطني" في تونس، كالجبهة التي شاركت في انقلاب مصر. وتضم الجبهة نحو 50 حزباً وجمعية ليس لغالبيتها تمثيل برلماني.
في المقابل، توصلت "النهضة" إلى "الائتلاف الوطني لإنجاح المسار الديمقراطي" ويضم 11 حزباً مطلع أيلول/ سبتمبر. ويقول الائتلاف إنه ليس بديلاً عن الائتلاف الحاكم أو لدعمه، "وإنما هو ائتلاف سياسي لمواجهة المرحلة الحالية وقد يصبح ائتلافاً انتخابياً".
كما أعلنت أحزاب أخرى عن تأسيس "ملتقى القوى الإسلامية والوطنية للإنقاذ" في أيلول/ سبتمبر.
وفي "استعارة" أخرى من مصر، أُعلن عن "حركة تمرد" في تونس. ولا يبدو مصادفة الإعلان عن "تمرد" التونسية في 3 تموز/ يوليو 2013، وهو تاريخ الانقلاب في مصر. وقالت الحركة التونسية إنها تجمع توقيعات لحل الحكومة والمجلس التأسيسي، وتطرح أعداداً للموقعين تبدو أقرب للمبالغة منها إلى الحقيقة بحسب مراقبين.
تونس والازمة:
لم تكن "الأزمة" التونسية وليدة اغتيال المعارض شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير الماضي، كما لم يكن اغتيال المعارض الآخر محمد البراهمي في 25 تموز/ يوليو نقطة حاسمة في تأجيج الاحتجاج في ظل اتهام "النهضة" للمعارضة بأنها "تريد توريط الجيش في صراع مع الحكومة"، الأمر الذي رد عليه الغنوشي باعتبار "الجيش التونسي جيشا وطنيا رفض الانقلاب على المؤسسة الشرعية"، وأن "سيناريو الانقلاب في مصر لا يمكن أن يحصل في تونس"، داعياً إلى قطع الطريق على "من يحلمون بسيسي آخر".
لم تتوقف التظاهرات في تونس منذ انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، حينما فازت "النهضة" بنسبة 42% من بين 217 مقعداً، ثم تحالفت مع حزبين علمانيين لتشكيل الحكومة. ابتدأ الأمر بمظاهرات ذات طبيعة خاصة أو مرتبطة بمناسبة معينة، مثل مظاهرات الطلاب أو العاطلين عن العمل، أو بمناسبة "يوم الشهداء". ثم أخذت مناحي أخرى، فمن الاحتجاج على اتهام "النهضة" بـ"أسلمة" الدولة، إلى محاولات حركات نسائية وليبرالية الضغط بشأن الدستور، علاوة على مظاهرات لمجموعات تطالب بتطبيق الشريعة.. إلخ.
وبشكل عام، كان الظهور الحزبي للمعارضة في المظاهرات ضعيفاً حتى أواخر عام 2012. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر تشكلت "جبهة الإنقاذ" في مصر مع تصاعد الضغط على الرئيس مرسي. لكن المعارضة التونسية لم تصل إلى تشكيل جبهة مماثلة إلا بعد الانقلاب في مصر. وبدا أن هناك تناغماً بين تحركات المعارضة في البلدين.
الأمر الآخر، هو انضمام الاتحاد العام للشغل لمنظومة الضغط على الحكومة عبر الدعوة لإضراب عام في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2012 لكنه ألغي لاحقاً، وآخر بعد اغتيال البراهمي، علماً بأن الاتحاد الذي تأسس عام 1946؛ لم يسبق أن دعا للإضراب العام إلا مرتين في تاريخه، الأولى في 26 كانون الثاني/ يناير 1978 في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، والثانية كانت لساعتين فقط قبل يومين من سقوط نظام بن علي.
كما بدأ الاتحاد بلعب دور سياسي، ومن ذلك تنظيمه مؤتمراً للحوار الوطني في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، ومشاركته في وساطات وطرح مبادرات خلال الشهرين الماضيين، قبل أن يدعو في 22 أيلول/ سبتمبر للانضمام للتظاهرات ضد الحكومة بحجة أن "النهضة" لم توافق على استقالة الحكومة قبل الحوار مع المعارضة إضافة إلى تقييد صلاحيات المجلس التأسيسي.
وتتضمن مبادرة الاتحاد الأخيرة استمرار عمل المجلس التأسيسي لإنجاز الدستور وقانون الانتخابات والهيئة المستقلة للانتخابات، على أن تتعهد الحكومة بالاستقالة خلال ثلاثة أسابيع من بدء مؤتمر للحوار الوطني، لتحل محلها حكومة تكنوقراط تقود البلاد حتى الانتخابات. وأساس المبادرة خطة طرحها التحالف الحكومي الذي تعهد بالاستقالة بعد الاتفاق على أسماء وزراء الحكومة المستقلة، فيما تصر المعارضة على استقالة الحكومة فوراً.
وأوضح القيادي في "النهضة" رفيق عبد السلام للصحفيين أن الحكومة لن تستقيل فعلياً إلا بعد استكمال كتابة الدستور والحصول على ضمانات بشأن موعد الانتخابات.
كما سعت نقابات فرعية كالنقابة الأمنية للاحتجاج على الحكومة بحجة وجود تعيينات لزيادة نفوذ "النهضة" في الداخلية، وهو ما تنفيه الوزارة التي يقودها وزير مستقل. كما قام مسؤولون في النقابات بالتعرض للرؤساء الثلاثة (الجمهورية، والحكومة، والمجلس التأسيسي) ما أجبرهم على مغادرة من جنازة لتشييع عناصر أمن قتلوا برصاص مسلحين في شمال غرب البلاد. وانضمت للاحتجاجات نقابة الصحفيين التي دعت لإضراب في أيلول/ سبتمبر احتجاجاً على اعتقال صحفي.
كما تتهم المعارضة "النهضة" بتشكيل "ميلشيات مسلحة" في إشارة إلى روابط حماية الثورة التي تسعى لمنع عودة رجال النظام السابق. وترفض الحركة اتهام الروابط بالعنف، وتتمسك بضرورة اللجوء إلى القضاء بشأنها.
وكما تكرر في مصر وليبيا، جرى اتهام قطر وقناة الجزيرة بدعم "النهضة". ولكن الحركة أكدت أن قطر تدعم الحكومة وليس الحركة.
لقد سعت المعارضة لحل المجلس التأسيسي دون إنجاز التحضيرات للانتخابات. وفي محاولة للضغط، جمّد 60 نائباً عضويتهم، لكنهم لم يستقيلوا لكي لا يتم تعويضهم بالاحتياط. على أثر ذلك قام رئيس المجلس مصطفى بن جعفر بتعليق أعمال المجلس في 6 آب/ أغسطس حتى 10 أيلول/ سبتمبر، دون استشارة شركائه في الحكومة. واقترحت "النهضة" طرح المطالب بحل المجلس للاستفتاء.
تعززت تحركات المعارضة التونسية بعد الانقلاب في مصر؛ الذي رحبت به، ثم جاء اغتيال البراهمي، فجرى تنظيم تظاهرات واعتصامات دائمة أمام المجلس التأسيسي، ما دعا الحكومة لحشد أنصارها أيضاً في مسيرة كانت الأكبر في تاريخ تونس. ودعت المعارضة لمظاهرات تحت شعار "أسبوع الرحيل" ثم "أسبوع الحسم" ولكن دون أن تنجح في إسقاط الحكومة.
ويقول الغنوشي في هذا السياق: "الدرس المصري يجب أن يشجعنا على حل خلافاتنا بالحوار وتقديم التنازلات". ويضيف: "قدمنا تنازلات في مجال الدستور حتى يمثل الدستور جميع التونسيين، كما نعيش في ظل حكومة ائتلافية وللسلطة رؤوس ثلاثة كل منها ينتمي لحزب". كما أن الحركة قدمت العديد من التنازلات السياسية والفكرية، واعتمدت استراتيجية جدية توافقية بين التيارين الإسلامي و"الحداثي"، كما يقول الغنوشي.
وفي تطور جديد، أعلنت حركة النهضة قبولها مبادرة اتحاد الشغل، مطالبة بالجلوس للحوار من أجل التوصل إلى تفاهمات نهائية.
وبعد أخذ ورد وتهديد من المعارضة بمقاطعة
الحوار الوطني، افتتح مؤتمر الحوار في 25/10/2013 بمشاركة أحزاب السلطة والمعارضة، بعد تعهد رئيس الحكومة علي العريض بالاستقالة خلال ثلاثة أسابيع من انطلاق الحوار بالتزامن مع المسارات الأخرى الخاصة بإعداد الدستور وقانون الانتخابات والهيئة المستقلة للانتخابات. كما عاد النواب الذين كانوا قد جمدوا عضويتهم إلى المجلس التأسيسي.
ويرى مراقبون أن هناك عملية ابتزاز واضحة تتم للنهضة والترويكا الحاكمة، وأن الأطراف الأخرى لا تريد سوى الانقلاب وإخراج الحركة من السلطة على الطريقة المصرية رغم غياب جميع المبررات التي ساقتها المعارضة المصرية لدعمها الانقلاب العسكري.
من الصعب الجزم بمآل الصراع الدائر في تونس، لكن النهضة تبدو واثقة من قدرتها على الحشد، وفي الآن نفسه، في قدرتها على تجاوز الأزمة بما يرسخ العملية الديمقراطية في البلاد.