إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن
النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس
والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين
في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير
والموازين وهذا الدمار المبين..
وفي
تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن
الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة
والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا
إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي
الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن
السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛
بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت
مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما
يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي
(الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن
جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو
حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الاولى مقارنة
بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون
انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء
لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس
إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء
المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة
حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية،
فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع
الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة
والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب
والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما
فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل
قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا
الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير
القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم
(وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى
التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما
نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها
المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق
الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية ( فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ
والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..
القوّة والعنصريّة والظُّلم
يقول الدكتور بوعلام بن حمودة الذي عاش كل فظاعات الفرنسيين في
الجزائر مجاهدًا وأسيرًا والذي يرى أن الجيش الفرنسيّ قد ارتكب جرائم باسم قادة
فرنسا السّياسيّين والعسكرييّن، طوال سنوات حرب التحرير، في البداية: "نَستثني
من هذه الإدانة الشّعب الفرنسيّ الّذي فُرِضَت عليه الحرب وجُنِّد أبناؤه تحت
سيطرة القانون الفرنسيّ: نَستثني أيضًا كلّ الفرنسيّين الّذين عبّروا عن آرائهم
المندِّدة بالظّلم الاستعماريّ والمؤيّدة للاِستقلال الجزائريّ. نتحدّث عن الجرائم
لِأنّ ما ارتُكِب، ارتُكِب بانتهاك القانون (وخارج القانون) وبانتهاك الأخلاق
المسيحيّة أي دين المحتلّين وبانتهاك المبادئ الأساسيّة للإنسانيّة.
لقد كان الاستعمار الفرنسيّ مبنيًّا على القوّة والعنصريّة والظُّلم
واستغلال ثروات الجزائر، وقد كان مؤسَّسًا على قوانين تُعتَبَر شتيمة للإنسانيّة .
لم يتورّع الجيش الفرنسيّ عن تطبيق مبدإ المسؤوليّة الجماعيّة، فَقتل
الأبرياء، ولم يتورّع فرنسيّو الجزائر عن قتل المارّة الجزائريّين، ولم تتردّد
السّلطات السّياسيّة والعسكريّة في تجميع سكّان الأرياف واقتلاعهم قسرًا من ديارهم
وأراضيهم ووسائل عيشهم. لا يهمّ السّلطات عدد السّجون ولا عدد المُعتَقَلات ولا
عدد الموقوفين بدون سبب والباقين في السّجن بِدون محاكمة... ولا يهمّهم تعذيب
المعتقَلين "مجّانًا" أي بدون غرض الاستجواب" .
ومن كلّ الوثائق الكتابية والشفاهية التي تعد بالآلاف يتبين أنّ
التّعذيب في الجزائر لم يكن مجرّد خيال أو دعاية بل هو حقيقة اعترف به مُبدِعوه
ومُطَبِّقوه.
لم يتورّع الجيش الفرنسيّ عن تطبيق مبدإ المسؤوليّة الجماعيّة، فَقتل الأبرياء، ولم يتورّع فرنسيّو الجزائر عن قتل المارّة الجزائريّين، ولم تتردّد السّلطات السّياسيّة والعسكريّة في تجميع سكّان الأرياف واقتلاعهم قسرًا من ديارهم وأراضيهم ووسائل عيشهم. لا يهمّ السّلطات عدد السّجون ولا عدد المُعتَقَلات ولا عدد الموقوفين بدون سبب والباقين في السّجن بِدون محاكمة... ولا يهمّهم تعذيب المعتقَلين "مجّانًا" أي بدون غرض الاستجواب" .
ويلخص طرق التّعذيب المختلفة بقوله: "طرق التعذيب لها شكلان:
شكل الإهانة وشكل الفظاعة، وكثيرًا ما يختلط الشّكلان. تكون الإهانة بالضَّرَبات
والصَّفَعات والرَّكَلات وكلّ ذلك مصحوب بشتائم لها طابع عنصريّ وأفعال فظيعة
وبَصَقات على الوجه؛ تكون الإهانة أيضا بإجبار الأسير على البول فوق جسد رفيقه وفي
تكديس ستّة أو سبعة مسجونين في دَنّ حَجمُه ثلاثة أمتار مكعّبة مدّةَ ثلاثة أيّام؛
وتذهب الإهانة إلى إرغام أسير على فعل لواطيّ على آخر بحضور رفاقه وإلى تعذيب
الموقوف أمام ذويه؛ وقد أُشيرَ إلى أنّ بعض الرّجال عَرّاهم الجنود الفرنسيّون
أمام بناتهم أو عَرَّوا بناتهم أمامهم.
تعددت طرُق التّعذيب الفظيع التي وَصَفَها الأسرى والمعتقَلون وهي
تتشابه عبر الوطن" .
لقد ورد في جريدة "الخبر" ليوم 22 تموز / يوليو 2013
بعنوان "مطالبة هولاند بإدانة صريحة لممارسات التعذيب في الجزائر".
يقول "هنري بويلوت" ردّا على الكلمة التي ألقاها الرئيس
الفرنسي، إثر وفاة صديق الثورة الجزائرية هنري علاق، الذي ظل وفيا لمبادئه، وكان
يدين أعمال التعذيب، وظل طوال حياته يناضل من أجل أن تظهر الحقيقة، وعقّب بويلوت
على تصريح "هولاند"، بمطلب قديم له، إذ رد عليه في الرسالة بقوله: "كيف
لرئيس الجمهورية الفرنسية أن يقر بذلك اليوم، ولا يعترف بمسؤولية بلاده عما ارتكبت
من أعمال تعذيب في حق الجزائريين؟». وفي معرض استحضاره هول التعذيب الذي سلطه
أعوان الاستعمار على الجزائريين، خاصة ضد المناضلين في فيلا "سيزوني"
بأعالي العاصمة، يقول: «لم أكن أعرف أن الأمر وصل إلى حد ما كتب في المؤلف الذي
طبع سرا.. كنت أظن أن الأمر يتعلق بانحراف لوحدة عسكرية فقط.. ولكن تلك الممارسات
صارت دستورا".
واستحضر بويلوت تقديم 12 شخصا من كبار الشاهدين على حرب التحرير، سنة
2002 من بينهم هنري علاق، نداء للسلطات الفرنسية بغرض الاعتراف بأعمال التعذيب ضد
الجزائريين والتنديد بها، إلا أنه "لا الرئيس جاك شيراك ولا رئيس حكومته
ليونال جوسبان استجاب للنداء". وخاطب صاحب الرسالة، هولاند "معظم
الشاهدين على تلك الفترة ماتوا، فهل تنتظر أن يموتوا جميعا كي تستجيب لهذا المطلب؟".
وعن اختطاف الفرنسيين وتعذيبهم وقتلهم يقول الدكتور بوعلام بن حمودة:
«ألقي القبض على Maurice Audin يوم 11 حزيران (يونيو) 1957 ثمّ نُقِل
إلى العمارة الّتي قُتِل فيها الأستاذ عليّ بومنجل.
كان Maurice Audin أستاذًا مساعدًا في الرّياضيّات بجامعة
الجزائر وعضوًا في الحزب الشّيوعيّ الجزائريّ؛ اتُّهِم بمساعدة الثّورة الجزائريّة
فقُتِل في أثناء نقله إلى قاضي التّحقيق. كلّ المساعي المبذولة من طرف أسرته
لتوضيح ظروف قتله بقيت بدون نتيجة"، وهو ما اهتم به الرئيس الفرنسي فرانسوا
هولاند أثناء زيارته للجزائر في ديسمبر 2012 وقد انتقده مناضل حقوق الإنسان
والعسكري الفرنسي السابق في حرب الجزائر هنري بويو بقوله: "لقد عجز هولاند عن
تقديم الحقيقة بخصوص اختفاء موريس أودان، على الرغم من أنه وعد بذلك..."،
وأشار العسكري السابق إلى أن عددا من الضباط السابقين في الجيش الفرنسي الذين ما
يزالون على قيد الحياة، يمكن استفسارهم عن مصير موريس أودان، مثل جون ماري لوبان
وبول أساريس وموريس سميث..." .
وتذكر المحامية الفرنسية جيزل حليمي أنها عندما قابلت حاكم الجزائر Lacoste Robert لتبلّغه حالات عديدة من التّعذيب أجابها قائلاً: "كلّ هؤلاء
الإرهابيّين سأسحقهم كالحيّات... هكذا بِعَقِبَي... وقد مَنحتُ الجيش ورقة بيضاء
لذلك".
وتصف المجاهدة لويزة إغيل أحريز ما عانت من إهانة وتعذيب فتقول إنّها
كانت مُهمَلة في فضلاتها ودمها وهي مشلولة بسبب تجبِيس العظم؛ كما كانت تُضرَب كلّ
يوم من طرف النّقيب Graziani الّذي كان يُسقِطها من سريرها بالرّغم
من جروحها. وقد كان يزورها العميد Massu والعقيد Bigeard ليطّلعا على "تقدّم الاستنطاق"؛
وعن ذلك تقول بلسانها في حوار لها مع جريدة "الجزائر":
"هناك عسكريون كانوا في فرقة المظليين العاشرة، ويذكرونني في كتبهم، كتابان
لـ "فلورونس بوجي" و"ريمون كلوارات" يتحدّثان عن تعذيبي،
والجحيم الذي عانيته من طرف فرقة المظليين العاشرة. وكلّ مدينة الشبلي تشهد لي أين
كنت، وكيف أصابوني بالمدفع الرشاش وألقوا عليّ القبض، وكيف تمّ تعذيبي شهرين ونصف
في بارادومن طرف الفرقة العاشرة.
س ـ تقصدين حوادث الاغتصاب؟
ـ أجل... للأسف فإنّ المجتمع
لا يتقبل أن تتحدث المرأة عن أمر يُعتبر من "الطابوهات" لست وحدي من
تعرضت للتعذيب، هن كثيرات آثرن الصمت، ولا أدري لم لا يتقبل المجتمع الخوض في
وقائع من التاريخ ؟! العار أن نخفي التاريخ لا أن نكشفه .
وتقول المجاهدة نسيمة حبلال:
"عندما تم توقيفي للمرّة الثانية قبل أن تنتقل لجنة التنسيق
والتنفيذ إلى تونس، وكان السي العربي قد أوقف، وقُتل، فنقلوني بين محتشدات
التعذيب، إلى فيلا "سيسيني" التي كان فيها التعذيب فظيعا، إذ شدّوا جسدي
إلى الأعلى، ورأسي إلى الأسفل، واستعملوا معي الماء والكهرباء، وغيرها من وسائل
التعذيب الأكثر وحشية، حتى شُلّت ذراعي، وأخذوني إلى المستشفى. لكنني لم أنطق
بشيء، ولم أتحدث عن رمضان عبان، إلاّ أنني وقصد التمويه تحدّثت عن عمارة رشيد،
الذي كان قد استشهد منذ مدّة. ثمّ أخذوني في سيارة أرادوا أن يستميلوني لكي أعمل
معهم، إذ اقترحوا عليّ أن أعمل لحسابهم" .
وعن قتل بن مهيدي يقول أوساريس (Aussaresses): "بأنّ
العربيّ بن مهيديّ نُقِل من "لبيار" إلى مزرعة تبعد بعشرين كيلومترًا عن
العاصمة جنوبًا ثمّ شُنِقَ ليلة الثالث من مارس 1957 ليظنّ المحقِّقون أنّه قد
انتحر".
كما يروي Aussaresses قصص قتل المعتقلين ودفنهم في ضواحي
العاصمة، ويعترف أن الجنرال Massu كان على علم بذلك. وكانت الجرائم
تُغطَّى دائما بتقارير تتكلّم عن محاولات فرار للمعتقلين!
وعن طرق التعذيب الممارس في فيلا "سوزيني" الرهيبة على
المناضلين تقول المجاهدة نسيمة حبلال: "كانت تلك الطرق كثيرة ومؤلمة. لقد
مكثت تحت التعذيب 40 يوما. وكان الجلادون يتناوبون على تعذيب المعتقلين، مثل
المناضل هاشمي حمود، مثلا، الذي استشهد من جراء التعذيب، رغم أنه كان قويّ البنية،
لكنه لم يتحمّل قساوة العذاب، فاستشهد بشجاعة. أمّا أنا فحاولت الهرب مرّة، ولكن
لحسن الحظ لم أستطع. إذ كنت سأُلقي بنفسي من علو50 مترا، وهذا بعد أن سقطت الأغلال
من يدي، ولم أر أمامي في تلك اللحظة إلاّ الحرية. وفي الوقت الذي استعددت فيه
لألقي بنفسي، أمسك بي الحارس. قليلون من يخرجون أحياء من تلك "الفيلا"
اللعينة" .
وعن صنوف هذا التعذيب الوحشي المنتهج في حق المناضلين يقول المجاهد
سعد دحلب (عضو لجنة التنفيذ والتنسيق في العاصمة) عن استشهاد البطل عمارة رشيد: "ولكن رشيد مع الأسف كان قد فقد، فبعد أخذه إلى الجزائر تم تعذيبه بوحشية تقشعر
لها الجلود، فقد نقل إلينا انه فقئت عيناه وسلخ جلد رأسه، فمات تحت التعذيب! يا
ترى ماهي الاعترافات التي حاول جلادوه أن يحصلوا عليها فيه؟ أصبحت لجنة التنسيق
والتنفيذ بعيدة عن طائلتهم، ولكن أساليبهم الآن أصبحت ثابتة: يجب على الضحية ذات
القيمة أن تموت تحت التعذيب. وكأن هذه الوحوش قد أرادت أن تختبر مقاومة (جبهة ت و)
في مدى تحمل مناضليها" .
وتقول زوجة الشهيد رامل، في حوار أجرى معها في جريدة
"الجزائر" بتاريخ 21 أكتوبر 2012: "تم القبض عليّ سنة
1957 من طرف القبعات الحمر، وأنا حامل في
شهري الأوّل بعد أن وشى بي خائن رآني أساعد السي مراد. قبض عليّ في منزل والدة
زوجي، وأخذوني مُباشرة إلى مركز التعذيب في جامع كتشاوة، وهو عبارة عن منزل
مُتكوّن من طابقين، مُزخرف على الطراز المغربي، لم يكن يحتوي إلاّ على قاعة
للتعذيب، فيما كان السجّانون يجهلون أنني حرم رامل الشهير، الذي كان يُحاول إنقاذي
دون جدوى، وباشروا تعذيبي وإهانتي وضربي واستعمال طريقة الإغراق، وهذا بهدف الحصول
على اعتراف ما في أقصر وقت مُمكن، ومن ثمّة التوصل إلى رأس الشبكة، أو هكذا فكروا".
ثم تضيف قولها: "تعرّضت لأبشع أنواع التعذيب، التقيت هناك
بفتيحة بوحيرد وكانت تتعرّض لعذاب الحوض المليء بالبراز والبول. أمّا أنا فقد
علّقوني فوق الحوض وأغاصوا رأسي في داخله، وكان عذابا يوميا دون توقف. كان تعذيبهم
وحشيا ومُطوّلا. فقدت القدرة على المشي فقد أصابني التعذيب بالشلل، ومن ثمّة رآني
طبيب كان يعمل في مستشفى مايو، لم يسمحوا له أن يفحصني إلاّ داخل الحجرة، كنت
وقتها حاملا في شهري الثاني، لكنني أخفيت الأمر لكي لا يكتشفوا أنني مُتزوجة،
وبالتالي يُحاولون الوصول إلى زوجي.
وبقيت أنكر التهم المنسوبة إلي ولم أعترف
بشيء، ورغم أنّ التعذيب أنهكني إلاّ أنني لم أفقد جنيني. وبقيت مدّة 3 أشهر بين
مختلف قاعات التعذيب: المركز، كازينو الكورنيش، ثكنة أورليان. إذ أنني عندما نُقلت
إلى ثكنة أورليان لم أكن قد تلقّيت العلاج اللازم، حيث اكتشفوا أنني زوجة رامل،
وهذا بسبب اعترافات عليلو، الفدائي الذي كان يعمل مع ياسف سعدي في المنطقة
المستقلة، والذي قبض عليه ولم يستطع مقاومة العذاب فأقرّ بعدّة أسماء. وُضعت لمدة
تفوق الشهر في زنزانة مُنفردة تحت حراسة مُشدّدة، وبقيت طريحة الفراش وألمي يزداد.
بعد أن انكشفت هويّتي، أخذوني إلى مقرّ الشُرطة المركزي، حيث تلقيت استجوابا
عنيفا، وتعرّفت على الظروف التي كان يُعانيها بعض السُجناء، فقد كانوا يُلقون بهم
في مخابئ داخل أنفاق العمارة وسط المياه القذرة، وبعد سلسلة طويلة من الاستجوابات
وحصص التعذيب، وبعد نقلي بين زنزانات مختلفة، أعادوني إلى المركز، ووجدت نفسي في
الحجرة الأولى التي بدأ فيها تعذيبي فور إلقاء القبض علي. في هذه المرحلة لم أستطع
أن أتحمّل بسبب حالتي الصحيّة المُتدهورة. ولكني تمكنت من أن أنجب دون تعقيدات.
وفي سجن برباروس، لقيت العناية في المرقد رقم 1، حيث تكفلت بي أخوات أخريات.
عن صنوف التعذيب التي يتعرض لها المجاهدون بعد الوقوع في الأسر يقول المجاهد مصطفى قليشة: "بعد سقوط سعد حاجي شهيدا سرعان ما تم تطويقنا من طرف عساكر العدو نزل الجنود من الشاحنات ووقفوا يشكلون حلقة ونحن وسطها مشهرين في وجوهنا أسلحتهم وكأنهم يخشون هروبنا رغم الحالة المزرية التي كنا عليها".
ويجيب المجاهد براهيم الشرقي (رفيق الشهيد محمد العربي بن مهيدي) عن
سؤال حول صنوف التعذيب التي تعرض لها بعد إلقاء القبض عليه فيقول: "عندما
وصلنا إلى فيلا "سانت رفائيل" بالأبيار، والتي كانت تقع فيها زنزانات الكتيبة الثانية من فرق
المظليين تحت قيادة العقيد بيجار، أخضعوني مباشرة إلى أول جلسة تعذيب، حيث جرّدوني
من ثيابي، وبلّلوا جسدي ثم بدأوا في صعقي بالتيار الكهربائي، وبعدها ربطوني إلى
خشبة بشكل صليب وأخذوا يغطسون جسمي في حوض ماء بارد جدا. والأبشع من ذلك أنه كان
ماء ملوثا، حتى أنني لمحت على سطحه شعر، وطاقم أسنان! وكانوا يريدون أن يبقوني على
قيد الحياة، إذ ما إن يشعروا أنهم بلغوا أقصى درجات التعذيب، يتوقفون لكي يعيدوا
الكرة من جديد، وبعد ذلك نقلوني إلى غرفة أخرى، أجلسوني على كرسي وشدوا وثاقي، جاء
جلاد، وراح يصعق أذني ثمّ بقية أطرافي بشحنات التيار الكهربائي دائما. استجوبني في
البداية رجل من مديرية مراقبة التراب الوطني، ثم بعدها جاء بيجار ذاته برفقة مساعد
له برتبة نقيب، ومعهما آخر وهو الملازم "ألير" ليستنطقوني.
أمضيت تلك الليلة في غرفة شاغرة وباردة، وربطوني في اليوم الموالي
إلى الكرسي، وراحوا يكوونني بالكهرباء، والغطس في الماء البارد، وسحق أعضائي
التناسلية بين لوحتين اثنتين، ووصل بهم الأمر أن وضعوني على حافة الحوض، وراح
المظليون يدوسون جسدي بالأحذية. بعد هذا نقلوني إلى فيلا سوزيني، لمقابلتي مع بعض
المعتقلين من عناصر جبهة التحرير. وهناك أرادوا أن يتخلصوا مني، إذ أنهم بعد حصص
التعذيب أخرجوني إلى الساحة، وحاولوا إيهامي بأنّ الحراسة ليست مُشدّدة، وفعلوا
هذا لكي يطلقوا عليّ النار بتهمة مُحاولة الهرب، وهكذا فعلوا مع مناضلين كثيرين،
لكن لم أخدع بهذه الطريقة".
وعن استشهاد العديد من المسجونين تحت التعذيب يقول المجاهد الشاهد
الطاهر عبد السلام: "حضرت حالة سجين في البرواقية، استشهد تحت التعذيب والضرب
بالعصي. وكنت أحد الخمسة الذين قاموا بعملية دفنه، ونقلوا جثته إلى مقبرة بمُحاذاة
السجن، ودفناه هناك، وقلنا لحرّاس السجن إننا مُسلمون، وإننا نصلي على موتانا،
فقالوا إنّ المرابط غسله وصلى عليه، وأنّ علينا قبره فقط. وكنا سننزل الحفرة لنضع
جثته، وإذا بدمائه تسيل من الكفن، وتُبلل جسدي. فأدركت أنّه قتل تحت التعذيب،
فتوتّرت أعصابي. وقمت بغسل أعضائي بدمائه، وكدت أفقد عقلي، ولاحظت بعدها أنّ
الحرّاس لم يكتبوا اسمه على القبر، بل وضعوا عليه حرف "إكس"...نحن كنا "اكس" بالنسبة إليهم!" .
وعن تعذيب النساء بالكهرباء تقول المجاهدة فاطمة خروبي التي مورس
عليها هذا النوع من التعذيب: "لقد بقينا هناك في معتقل دلس للاستنطاق
والتعذيب لمدة شهر و22 يوما، أذكر أننا عندما وصلنا أوّل يوم أخذوا رفيقتي التي
عذبوها بالكهرباء، ثمّ عادت في حالة يُرثى لها، وكانت تترك عندي رضيعها يبكي من
الجوع وتهري لحمه من التعفن بشكل يصعب رؤيته!! قالت لي إنهم لا يرحمون، وأنني
سأجبر على أن أبوح بما لم أره! لذا عليّ أن أقول كلّ ما أعرف، فهُلعت، بطبيعة
لحال، وتذكّرت ما قاله لنا المجاهدون من أن لا ننكر وجودهم، وإنما نقول دائما أنّ
العساكر هم الذين أتوا، وعندما أتى دوري اقتادني الحركي الذي يُسمى (ابن الشوافة)
واسمه الحقيقي كما علمت هو (عمر بوعبيد) وقد كان هو الذي يعذبنا خفت كثيرا، حتى
أنّ لون وجهي تغيّر، سألني الحركي المذكور: «لماذا وجهك شاحب؟" قلت: "لأنني مريضة
بالروماتيزم،" فقال بكل استهزاء وسُخرية : "هنا يمكن أن تشفي من الروماتيزم
تماما!" لم أرد. سألني الضابط عن اسمي، قلت: خروبي، قال لي: "آه، عائلتكم كلها
فلاقة» كانوا سيضعون سلك الكهرباء في أذني، ولكن وُلدت بأذن واحدة، فسألني عنها،
فقلت إنني خُلقت هكذا، فوضع الأسلاك في رجلي، وبدأوا في التعذيب حتى أغمي علي،
وعندما أفقت، سألني عمّن كان يأتيني..من المجاهدين والفلاقة؟ اكتفيت بالصمت، ثمّ
أعادوا الكرّة، وسألوني... نفس الرد، ومرّة ثالثة وضعوا لي الكهرباء، قال لي
العسكري الذي يتحدّث بالعربية، إن كنت لا أعرف شيئا؟ قلت لا" .
وعن صنوف التعذيب التي يتعرض لها المجاهدون بعد الوقوع في الأسر يقول
المجاهد مصطفى قليشة: "بعد سقوط سعد حاجي شهيدا سرعان ما تم تطويقنا من طرف
عساكر العدو نزل الجنود من الشاحنات ووقفوا يشكلون حلقة ونحن وسطها مشهرين في
وجوهنا أسلحتهم وكأنهم يخشون هروبنا رغم الحالة المزرية التي كنا عليها، تقدم
أحدهم وكان يظهر عليه أنه قائدهم فبادر بالشتائم والإهانات فصار يركلنا بحذائه
العسكري (قوداس) بكل ما أوتي من قوة، جردني من سلاحي وطلب مني ومن بن شهرة أن
ننبطح على الأرض ثم ترك المجال لجنوده يفعلون بنا ما يريدون...
وبينما نحن على تلك الحال من التعذيب والآلام إذ بي أسمع صوتا
بالعربية يقول: «إنهم خونة لقد طلبوا مني إيواءهم فأبيت إنهم خونة"، استطعت
أن أميز الصوت رغم ما كنت أعانيه فعرفت بأنه صاحب الخيمة الذي قصدناه سابقا ورفض
إيواءنا.
لا نستطيع أن نعطي صورة مفصلة عن كيفية التعذيب ووسائله خلال سبع سنوات من الحرب الجزائرية، إذ أن الجلادين الفرنسيين الذين تخصصوا في الإجرام، يكتشفون كل يوم طرقا جديدة في التعذيب لا تخطر على بال بشر!
طلب القائد الفرنسي ترجمة ما يقول ذلك الرجل وعندما فهم ثارت أعصابه
وأصبح كالوحش الكاسر، فصعد على جسدينا أنا وبن شهرة وصار يرفسنا بحذائه العسكري
الذي كان وقعه علينا كالفولاذ. كانوا كالوحوش الضارية التي تلتهم فريستها بشراهة
ووحشية بعد طول مطاردة. مرت دقائق قليلة ونحن تحت رحمة ذلك القائد الشرير وإذا
بمروحية تحط بالقرب منا، فحمل بعض الجنود الفرنسيين رفيقي بن شهرة ووضعوه على متن
المروحية وأقلعت هذه الأخيرة وبقيت أنا، فقيَّدوا يديَّ وراء ظهري وشددوا وثاقي
وجاءت سيارة من نوع (4×4) يقودها عسكري وفيها ثلاثة جنود أركبوني تلك السيارة،
وكان هؤلاء الثلاثة جزائريين موالين لفرنسا استعملهم الجيش الفرنسي ليضرب الإخوة
بعضهم ببعض.
وصلنا إلى مقرهم بقرية الشارف وإذا بمجموعة منهم تهرع نحوي يتنافسون
على رؤيتي وكأنني كائن قادم من كوكب آخر، والأمر الذي كان يحز في نفسي هو أنهم
طلبوا من الجنود الفرنسيين أن يسلموني لهم كي يعذبوني بأيديهم، فلم يرفض الجنود
الفرنسيون، وسلموني للڤومية فكانوا كلهم فرحين. وبدؤوا بتحضير وسائل التعذيب، وهي
عبارة عن طاولة وآلة كهربائية مصممة خصيصا لهذا الغرض فيها أسلاك ومولد كهربائي
يشغل باليد!
وبينما نحن في تلك اللحظات الرهيبة، فإذا بضابط فرنسي يطلب منهم
مغادرة المكان لأنه جاء ليأخذني معه، فأوثق جنوده يديَّ بإحكام إلى الوراء، وكانت
مروحية توجد بالخارج، فأركبوني على متنها وثبتوني على الكرسي وكان عسكري يحرسني،
فصرخ ذلك الجندي وهو يشهر مسدسه نحو عنقي قائلا: لو صدرت منك أية حركة فسأفرغ هذا
المسدس هنا. وأشار إلى عنقي ناحية الوريد.
فهمت حينها أنهم يخشون أن أرمي بنفسي من المروحية أثناء طيرانها
ولهذا شددوا علي الحراسة... طارت المروحية حوالي 25 دقيقة وبعد ذلك حطت بقاعدة
عسكرية مؤقتة لقيادة العمليات في إطار مخطط شال للقوات الفرنسية في منطقة من جبل
الزباش. عند وصولنا أنزلوني من المروحية، فوقع نظري على بن شهرة في سيارة (4×4)
كان في حالة يرثى لها حيث كانوا يقومون بتعذيبه بالكهرباء وهو يصرخ، فهالني
المنظر، وسرعان ما كان لي نفس المصير بحيث ألقوني على ظهري في سيارة مماثلة وثبتوا أسلاك ناقلة للتيار
الكهربائي على جسدي، وبدأ التيار الكهربائي يسري في بدني وينخر كل كياني. كان
المرء يحس وكأن الموت يقترب منه أو يكاد يفقد عقله من شدة الألم".
لا نستطيع أن نعطي صورة مفصلة عن كيفية التعذيب ووسائله خلال سبع
سنوات من الحرب الجزائرية، إذ أن الجلادين الفرنسيين الذين تخصصوا في الإجرام،
يكتشفون كل يوم طرقا جديدة في التعذيب لا تخطر على بال بشر!
فإذا كان أصحاب المواهب الفكرية في العالم يتباهون باختراع الطائرات
والصواريخ وعجائب العلم الحديث، فإن هؤلاء الوحوش يتباهون بما تكشف عنه مخيلاتهم
المريضة كل يوم من فنون التعذيب ووسائله...
فهم يمارسون تجاربهم الإجرامية التي ترمي إلى تحطيم إنسانية الإنسان
كما تمارس التجارب العلمية على الحيوان والنبات...