صحافة دولية

نيويورك تايمز: حرب إبادة جديدة في دارفور التي نسيها العالم

هل يتحرك بايدن لمنع استمرار الإبادة في دارفور؟ - جيتي
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تقريرا تحدثت فيه عن الحروب والنزاعات التي تلقي بظلالها على العديد من المناطق دون أن تحظى باهتمام كافٍ من العالم، وقد يترتب عن هذا الصمت الدولي تداعيات خطيرة على الضحايا والمناطق المتضرّرة.

وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن هناك إبادةً جماعية تحدث في دارفور بالسودان للمرة الثانية خلال 20 سنة. هذه المرة، تُمارس أعمال العنف تحت إشراف الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي لم يفعل هو وإدارته ما يكفي لوقفها. وفي الواقع، هناك أمران يمكن للرئيس بايدن القيام بهما اليوم وقد يكون لهما تأثير حقيقي، أولهما منع حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من تسليح مرتكبي الجرائم، والثاني دعم مبادرة أفريقية بقيادة كينيا لإنهاء إراقة الدماء.

في الأسابيع الأخيرة، اجتاحت قوات الدعم السريع شبه العسكرية السودانية أربعا من المدن الخمس الرئيسية في دارفور، غرب السودان. وأعقب كل غزو مذبحة وأعمال نهب استهدفت سكان هذه المدن. وبعد استيلاء قوات الدعم السريع على بلدة أردماتا في الرابع من  تشرين الثاني/ نوفمبر، ذُبح حوالي 1500 شخص، وذلك وفقا لجماعة حقوق الإنسان في دارفور. 



وذكرت الصحيفة أن القوات شبه العسكرية متنقلة وشرسة، أما خصومها في الجيش النظامي - أي القوات المسلحة السودانية في دارفور - فهم محبطون ومتفوقون في التسليح. ويبدو كما لو أن حملة قوات الدعم السريع ستستمر حتى لا يبقى هناك المزيد من المدن للنهب، ويتم تطهير المجتمعات غير الناطقة باللغة العربية في دارفور عرقيًا أو تحويل سكانها إلى عمال يتقاضون أجورًا زهيدة على الأراضي التي كانت في السابق ملكا لهم. ويلجأ حاليا مئات الآلاف من المدنيين المذعورين إلى الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، وهي المدينة الوحيدة في المنطقة التي لم تسيطر عليها قوات الدعم السريع بعد. 

حسب الصحيفة، تمثّل قوات الدعم السريع الجيل القادم من ميليشيات الجنجويد، وهي الميليشيا التي اجتاحت قبل 20 سنة عشرات القرى التي يسكنها الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمعات الفور والمساليت والزغاوة في دارفور. في ذلك الوقت، كان الرئيس عمر البشير قد حشد الجنجويد لسحق المتمردين في دارفور عن طريق القضاء على المجتمعات غير العربية في المنطقة. أحرق رجال الميليشيات كل ما اعترضهم وقتلوا واغتصبوا ونهبوا، ذُبح عشرات الآلاف من المدنيين بينما لقي مئات الآلاف حتفهم بسبب الجوع والمرض. كان الجنجويد، المؤلَّفون من البدو الناطقين باللغة العربية من أطراف الصحراء - وهي المجتمعات التي أفقرتها عقود من الإهمال إلى جانب الجفاف وتقدم الصحراء الكبرى - يبحثون عن الأرض والنهب.

بحلول أيلول/ سبتمبر 2004، قدّم وزير الخارجية، كولن باول، الأدلة وأعلن أن ميليشيات الجنجويد ارتكبت جريمة إبادة جماعية. وانضم جورج كلوني ومجموعة من المشاهير والسياسيين الآخرين إلى تحالف إنقاذ دارفور لمطالبة الرئيس جورج دبليو بوش بإرسال قوات دولية لإنهاء القتل. وقد نجحوا في توجيه اهتمام العالم نحو الأزمة الجارية: أطلقت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وبرنامج الغذاء العالمي عملية إنسانية كبرى في المنطقة، وأرسلت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي قوات حفظ السلام.

حقّقت المحكمة الجنائية الدولية في الفظائع التي ارتُكبت في دارفور، وأصدرت مذكرة اعتقال بحق البشير. وبعد الإطاحة به في سنة 2019، سجنت السلطات السودانية عمر البشير بتهم الفساد، لكنها فشلت في تسليمه إلى المحكمة، حيث يحاكم أحد قادة الجنجويد.

مع ذلك، لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام بسرعة، ولم يتمكن ثلاثة ملايين شخص من النازحين، أغلبهم يقيمون في مخيمات إغاثة ضخمة، من العودة إلى ديارهم. هدأت أعمال القتل والحرق، وقام البشير بإضفاء الطابع الرسمي على الجنجويد في قوات الدعم السريع، التي يرأسها الفريق محمد حمدان، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي لا يرحم. تم اكتشاف الذهب أيضًا في دارفور، وسرعان ما بُعثت قوات الدعم السريع.



في سنة 2020، في أعقاب الاحتجاجات المدنية السلمية التي أدت إلى تشكيل حكومة انتقالية واعدة بالديمقراطية في السودان، حصلت دارفور على اتفاق السلام الذي وُعدت به منذ فترة طويلة. عاد المتمرّدون المسلّحون في دارفور إلى ديارهم وتولى زعماؤهم وظائف حكومية، وبدأت المجتمعات غير العربية التي كانت ضحية للحرب الأخيرة تأمل العودة أخيرا إلى قراها السابقة. تم التخطيط لإنشاء "قوة حفظ أمن مشتركة" من الأطراف الثلاثة لحماية المدنيين والحفاظ على السلام. وبعد بضعة أشهر، انضمت الولايات المتحدة إلى الحكومات الغربية الأخرى وأوقفت، بناءً على طلب السودان، بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور، وسحبت جميع قوات حفظ السلام الدولية بحلول منتصف سنة 2021.

كان غياب قوات حفظ السلام محسوسًا بشدة عندما اندلع صراع على السلطة بين الجنرال حمدان من قوات الدعم السريع والجنرال عبد الفتاح البرهان في القوات المسلحة السودانية وتحوّل إلى حرب شاملة في 15 نيسان/ أبريل. وفي غضون أيام، انفجر العنف في دارفور أيضا حيث قامت قوات الدعم السريع والميليشيات العربية الأخرى المرتبطة بها بملاحقة نفس الجماعات المدنية التي وقعت ضحيّة لها في المرة الأخيرة.

ذكرت الصحيفة أن قوات الدعم السريع تهاجم وحدات الجيش، لكنها ترتكب أيضًا جرائم قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية على طول الطريق – حيث تستهدف مجموعات عرقية محددة بالقتل والتشريد والمجاعة. يحرص حمدان وكبار قادته على تجنب أي شيء ينم على نية ارتكاب إبادة جماعية في تصريحاتهم العلنية، ولكن يُقال على نطاق واسع إن مقاتلي قوات الدعم السريع يستخدمون لغة غير إنسانية نموذجية لمرتكبي الإبادة الجماعية. ومن المؤكد أن حملة القتل والتهجير القسري التي تقوم بها قوات الدعم السريع تتناسب مع الفهم الدولي للتطهير العرقي. 

بقي المتمردون السابقون في دارفور خارج القتال لعدة أشهر، رغم الهجمات العنيفة على مجتمعاتهم. وفي منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، مع اقتراب قوات الدعم السريع من الفاشر والأشخاص الذين لجأوا إليها، أعلن المتمردون السابقون أنهم سيقاتلون الجماعة شبه العسكرية. وغالبًا ما يكون المتمردون السابقون أفضل تسليحًا وأكثر تصميمًا من الجيش النظامي سيئ الحظ، لكن المعركة التي تشارك فيها كل هذه القوات تهدّد بحمام دماء جديد بين المدنيين.

أشارت الصحيفة إلى أن المحادثات المتقطّعة التي استمرت ستة أشهر في جدة بالمملكة العربية السعودية، والتي عقدتها الولايات المتحدة والسعوديون، لم تحقق سوى القليل. وقد تمسّك جيش الجنرال البرهان بموقف متطرف، مطالبًا بانسحاب قوات الدعم السريع إلى قواعدها ونزع سلاحها. ولا ترى قوات الدعم السريع بقيادة اللواء حمدان، التي تنتصر على الأرض على كل الجبهات، أي سبب للتراجع. تم إلغاء كل وعود وقف الأعمال العدائية أو حماية المدنيين أو السماح بدخول المساعدات الإنسانية، دون أي عواقب.

حتى الآن، كانت استجابة إدارة بايدن للأزمة المتصاعدة غير كافية إلى حد كبير. ومع أن الإدارة ساعدت في عقد محادثات وقف إطلاق النار في جدة، وأصدر بلينكن نداءه لضبط النفس، إلا أنه لا يبدو أن أيًا منهما قد أحدث تأثيرًا ملحوظًا. لكن يمكن للرئيس بايدن أن يتخذ إجراءات من شأنها أن تساعد في وقف المذبحة أحدها الاتصال برئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.

في محاولة لتصبح صانعة الملوك في المنطقة، قامت الإمارات بشحن الأسلحة سرًا إلى قوات الدعم السريع، كما وثّقت صحيفة "نيويورك تايمز". ويبدو أن هذه الأسلحة، التي قد تشمل الطائرات المسيّرة التي استخدمتها قوات الدعم السريع لإحداث تأثير مدمر إلى جانب شاحناتها الصغيرة وسيارات الدفع الرباعي المحولة والصواريخ المضادة للطائرات التي قدمتها روسيا، قد غيرت مجرى المعركة مما سمح للقوات شبه العسكرية بتركيز قوتها النارية والتغلب على الجيش.

حتى الآن، ولأنه واثق من أن إدارة بايدن لديها العديد من الأولويات الأخرى في الشرق الأوسط، كان لابن زايد مطلق الحرية في التدخل على الشاطئ الآخر من البحر الأحمر، حتى لو كان ذلك يعني دعم ميليشيا عنيفة. ومن غير المرجّح أن تنجح محاولة وقف تجارة الذهب التي تقوم بها قوات الدعم السريع إلى دبي.

حسب الصحيفة فإن الحليف الأمريكي الرئيسي الآخر، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يجب أن يكون على قائمة مكالمات بايدن. رغم شكوكها بشأن علاقات الفريق البرهان بالإسلاميين، تدعم القاهرة القوات المسلحة السودانية وقد تكثف مشاركتها إذا اعتقدت أن هناك فرصة لأن تسيطر قوات الدعم السريع على السودان. وينبغي على بايدن أيضًا تعيين مبعوث رئاسي خاص للسودان من المرجح أن يستجيب له قادة الشرق الأوسط الذين يتمتعون بنفوذ أكثر من مكتب الشؤون الأفريقية التابع لوزارة الخارجية، الذي يعتبرونه صغيرًا جدًا.



يجب على بايدن أن يدعم كينيا، علما بأن الرئيس ويليام روتو حريص على لعب دور بنّاء في وقف هذه الأزمة. ففي شهر حزيران/ يونيو، قاد مجموعةً رباعيّة من دول شرق أفريقيا في اقتراح نهج شامل للسلام. وأدان روتو كلا الجنرالين السودانيين ووصفهما بأنهما "غير شرعيين"، وحذّر من وجود "علامات بالفعل على حدوث إبادة جماعية" في دارفور، وأشار إلى أنه قد تكون هناك حاجة إلى قوات حفظ سلام أفريقية.

وعندما تقترح الدول الأفريقية صيغة لمعالجة أزمة أفريقية، فإن القوى العالمية غالبا ما تضع خلافاتها جانبا وتدعمها. في المقابل، من المؤكد أن أي اقتراح أمريكي بإرسال قوات حفظ السلام سيقابله حق النقض من جانب الصين أو روسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وإذا ركّزت واشنطن فقط على محادثات وقف إطلاق النار في جدة، فمن المؤكد تقريبًا أن ذلك سيكون طريقا مسدودا. أما من خلال العمل مع مصر والمبعوث الخاص للأمم المتحدة المعين حديثاً إلى السودان، يستطيع روتو أن يقترح إجراءات لا تستطيع الولايات المتحدة أن تقترحها. وهو يسعى لعقد قمة طارئة لزعماء شرق أفريقيا الأسبوع المقبل، حيث ستُتاح له الفرصة لتقديم مقترحات جريئة.

خلُصت الصحيفة إلى أنه في غياب إجراءات على أعلى مستوى، فإن الولايات المتحدة تخاطر بالتحول إلى شاهد شبه صامت على إبادة جماعية أخرى. يمكن للرئيس بايدن تغيير مجرى الأحداث ولكن لم يتبق له سوى بضعة أيام لإجراء المكالمة اللازمة.