دفعت موجة الاحترار العالمي
الشديدة التي ضربت النصف الشمالي من الكرة الأرضية خلال تموز/ يوليو، بعض أكبر
منتجي الغذاء في العالم إلى اتخاذ قرارات بوقف تصدير منتجاتها، ما قد يقود الدول
الفقيرة، وبينها
مصر إلى أزمة غذاء طاحنة.
والاثنين
الماضي، قررت روسيا إنهاء اتفاقية برعاية أممية لتصدير الحبوب الأوكرانية، عبر
تركيا، ما دفع الأمم المتحدة لإعلان اضطرارها قطع المساعدات الغذائية عن بعض الدول
بسبب أزمة تمويل برنامج الغذاء العالمي، في أزمة تطال مصر ثاني أكبر مستورد
للأقماح في العالم بعد الصين.
وأثار
قرار الهند وروسيا الأسبوع الماضي وقف تصدير إنتاجهما من الأرز، المخاوف من تبعات
ذلك القرار على سلعة الأرز الاستراتيجية في مصر، خاصة مع ما تعانيه البلاد من
تراجع في الإنتاج المحلي، وعجز تمويلي، وندرة العملات الصعبة اللازمة لتوفير السلع
الأساسية ومنها الأرز.
ويمثل
الأرز السلعة الاستهلاكية الأهم بعد الخبز في مصر، لكن ارتفاع أسعاره العام الماضي
لأرقام غير مسبوقة أصاب ملايين المصريين الفقراء بصدمة، خاصة أن الأزمة في تصاعد
في ظل تراجع نسب الإنتاج المحلي، مع فرض الحكومة قيودا على زراعته، وسط تعرض
البلاد لنقص بمياه الري بفعل أزمة مياه النيل مع إثيوبيا.
وارتفع
سعر طن الأرز الموسم الماضي إلى نحو 30 ألف جنيه بعد أن كان يتراوح سعره بين 6 و 8 آلاف، ما أصاب المستهلك بضائقة مالية والمزارع بخسارة كبيرة.
"أزمة
المحلي"
ويشكو
مزارعون من سوء تعامل وزارات الزراعة والتموين والري والداخلية معهم، ما بين
الإهمال التام لمطالبهم والمبالغة في أسعار البذور والأسمدة والوقود اللازم للآلات
والري، وبين أخذ محاصيلهم بأسعار لا تتناسب مع جهدهم طوال العام، وبين فرض
الغرامات وحتى عقوبة السجن بحق المخالفين.
"عربي21"،
رصدت عشرات الفلاحين يقبعون أمام زراعات الأرز الخاصة بهم وينصبون ماكينات الري
الكبيرة ومواتير الرفع الصغيرة على ترعة السهيلية وترعة الجلهومية في محافظة
الشرقية ليل نهار في انتظار وصول المياه القادمة من نهر النيل لري محصول الأرز
خلال الصيف الحارق هذا العام، وسط تراجع كبير في نسبة ما يصل إليهم من مياه.
المزارع
"عماد" (45 عاما) أكد في حديثه لـ"عربي21"، أن معاناتهم
متواصلة مع توفير المياه اللازمة لري الأرز الذي يحتاج لكميات كبيرة، موضحا أنهم
يلجأون إلى جلب المياه من بعض الآبار الخاصة ببعض الأهالي إلى الترع بمقابل مالي
لا يتحمله المزارعون، ثم يقومون برفعها ثانية إلى حقول الأرز، في مجهود كبير
وتكلفة عالية.
ولفت
إلى أنه يعمل هو ونجلاه وزوجته وأزواج بناته طوال الموسم بجانب ما يقوم بتأجيره من
عمالة لشتل الأرز ثم حصده، مبينا أن أي عائد لن يجزي جهدهم، خاصة أن ما لديه من
أرض هي بالإيجار الذي تعدى الـ10 آلاف جنيه للفدان.
وحول
كيفية الخروج من أزمة الأرز المتوقعة عالميا والتي قد تطال مصر، أشار عماد، إلى أن "المشكلة في الحكومة المصرية التي تمارس كل أنواع الضغوط علينا"، لافتا
إلى قرار وزير التموين في آب/ أغسطس الماضي، بإجبارهم على توريد طن أرز شعير عن كل
فدان، مقابل 6600 جنيه للطن، وسجن من يخالف القرار وتغريمه.
"فائض
يختفي"
وبحسب
تأكيد وزير التموين علي المصيلحي، في آب/ أغسطس الماضي، فإن المساحة المزروعة من
الأرز الموسم الماضي بلغت 1.5 مليون فدان حققت إجمالي إنتاج بنحو 6 ملايين طن أرز
شعير، ما يعادل حوالي 3.5 مليون طن أرز أبيض، وهو ما يفيض عن الاستهلاك المحلي
البالغ 3.2 مليون طن سنويا، بفائض نحو 300 ألف طن.
ويحرص
الفلاح المصري وأهل الريف في الدلتا بشكل خاص على تخزين حاجتهم السنوية من الأرز،
ولعدم ثقتهم الكاملة في الحكومة وقراراتها وتأخر الحقوق المالية لهم لديها وتخوفهم
من التعامل معها حصلت وزارة التموين على نحو 250 ألف طن أرز فقط من المزارعين
الموسم الماضي، بينما كانت تستهدف 1.5 مليون طن، فيما فاز التجار بالنسبة الأغلب
من المحصول.
ومع
انتهاء حصاد الأرز الذي يبدأ في أيلول/ سبتمبر من كل عام، ويستمر حتى تشرين الأول/
أكتوبر، واجه السوق المصري أزمة كبيرة مع ندرة الأرز وارتفاع سعره في الخريف
والشتاء الماضيين والصيف الحالي، فيما عجز قرار وزارة التموين بتسعير الأرز عن حل
الأزمة، ما دفع الحكومة رغم أزمتها
الدولارية إلى الاستيراد الخارجي.
ورغم
أن القاهرة خرجت من سجل مستوردي الأرز منذ نحو 5 سنوات ومنذ العام 2018، تحديدا مع
اكتفائها الذاتي من تلك السلعة، إلا أن الهيئة العامة للسلع التموينية قررت
استيراد كميات من الأرز في آذار/ مارس، حتى أيار/ مايو الماضي، وهو ما يصب لصالح
كبار المستوردين، بحسب مراقبين.
"السيسي
يلوم الفلاحين"
ومع
تفاقم أزمة اختفاء الأرز من الأسواق المحلية وارتفاع سعره بشكل مثير للجدل، فقد ألقى رئيس
النظام المصري عبد الفتاح السيسي باللوم على الفلاحين وحملهم أسباب الأزمة مدافعا عن
حكومته وعن التجار.
وفي
14 حزيران/ يونيو الماضي قال السيسي، للفلاحين: "لو جاءتكم فرصة بسعر أعلى
لبيع الأرز أو
القمح، افتكروا بلدكم"، مضيفا أن بعض المزارعين أخذوا الموسم
الماضي الأرز وأعطوه لأحد آخر غير الدولة.
ودائما
ما ينتقد خبراء زراعيون سياسات الحكومة تجاه زراعة الأرز، ففي رسالة وجهها للسيسي،
في 5 أيلول/ سبتمبر 2020، وصف الخبير الزراعي الدكتور سعيد سليمان، سياسات وزارتي
الزراعة والتموين بحق الأرز المصري بأنها "تسعى لتدميره"، وخاصة قرار
خفض مساحة الأرز من مليونين فدان إلى نحو 1.1 مليون بحجة الاستهلاك الشره للمياه.
"زيادة
متوقعة.. وهذه الأسباب"
وفي
تعليقه، قال الأكاديمي المصري المتخصص في العلوم الزراعية الدكتور عبدالتواب
بركات، إن "قرار روسيا والهند بمنع تصدير الأرز سيكون له تأثير سلبي على
السوق المصرية بزيادة أسعار الأرز في السوق الدولية باعتبار الهند أكبر منتج للأرز
في العالم ويوفر 40 بالمئة من المتاح بالسوق الدولية".
الأستاذ
المساعد في مركز البحوث الزراعية بالقاهرة، أكد في حديثه لـ"عربي21"،
أنه "بالتالي فإن أسعار الأرز في مصر سترتفع لعدة أسباب، أولها تخفيض
المساحة المنزرعة من الأرز، وتحول مصر من تصدير الأرز لاستيراده".
ولفت
إلى أن السبب الثاني للارتفاع المتوقع في أسعار الأرز على المستهلك المصري هو
"تراجع قيمة العملة المحلية (الجنيه) وشح العملات الصعبة لدى الحكومة المصرية
وخاصة الدولار"، ملمحا إلى أن السبب الثالث هو "زيادة أسعار بديل الأرز
وهي القمح والخبز والمعكرونة في مصر والعالم".
وعن
حجم العقبات في زراعة الأرز المحلي وسوق تصريفه، وتأثير ذلك على توافر السلعة
وسعرها، قال إن "العقبات في سوق زراعة الأرز المحلي هو محاربة نظام السيسي
زراعة الأرز بحجة المحافظة على مياه الري".
وأوضح
الخبير الزراعي المتخصص في بحوث التنمية الزراعية وسياسات الأمن الغذائي، أن
النتيجة التالية هي "تراجع الإنتاج من المحصول المحلي، وحدوث فجوة يتم
تعويضها بالاستيراد الخارجي".
وأكد
أن العقبة الثانية أمام الإنتاج المحلي من الأرز، هي "امتناع الحكومة عن
تحقيق مخزون استراتيجي من الأرز المحلي أو المستورد أو توفيره في منظومة البطاقات
التموينية بالمعدل المعروف وهو 2 كيلو للفرد، وتخفيضه إلى كيلو واحد للبطاقة
المكونة من 4 أفراد، و2 كيلو للبطاقة التي يزيد عدد أفرادها على أربعة".
المستشار
الأسبق بوزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر، يرى أن لكل تلك السياسات
"تأثيرا كبيرا على غياب سلعة الأرز من الأسواق وارتفاع سعره لمستوى غير
مسبوق".
وقال
إن "الأخطر من ذلك كله هو تراجع متوسط استهلاك الفرد من 42 كيلوغراما في 2013
إلى 26 كيلوغراما حاليا"، معتبرا أن "هذا الانخفاض له تأثير خطير على
الأمن الغذائي المصري وصحة المواطنين وخاصة الأطفال".
وحول
رؤيته لأسباب تراجع الإنتاج المصري بعد تحقيقه فائضا كبيرا في السنوات السابقة،
قال بركات: "السؤال الذي يجب أن يوجه للنظام هو، لماذا لا ينشر تقاوي الأرز
المقاومة للجفاف ويوفرها للفلاحين لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتوفير مياه الري التي
يستهلكها أصناف الأرز قصير الحبة التقليدية كما يدعي؟".
وأضاف:
"في تقديري أن النظام غير حريص على الأمن الغذائي للمواطن المصري ويقصر في
توفير الأرز المحلي بكميات كافية وبأسعار معقولة ويحارب زراعته ويفرض غرامات مالية
على الفلاحين الذين يزرعون الأرز في أراض غير مصرح بها رغم تحرير الزراعة ووقف
العمل بقانون الدورة الزراعية منذ 1993 لأسباب غير منطقية".