أفكَار

الحجاب في مواجهة السياسة الكولونيالية.. الحالة الجزائرية نموذجا (1من2)

عبد الرزاق مقري: شعر الاستعمار منذ دخوله الجزائر بأن إخضاع الجزائريين غير ممكن ما بقوا يسيّرون أسرهم بقوانين الأحوال الشخصية التي حافظوا عليها على هامش قوانين الاستعمار بعد سقوط دولتهم.
يعود الدكتور عبد الرزاق مقّري الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم الجزائرية "حمس"، في هذه الدراسة التي تنشرها "عربي21" على جزأين بالتزامن مع نشرها على صفحته الرسمية على "الفيسبوك"، إلى موضوع حجاب المرأة المسلمة، ليس من المدخل الشرعي ولا المدني، وإنما لعلاقته بالهوية الوطنية ومقاومة الاحتلال.. ويأخذ من الحالة الجزائرية نموذجا واقعيا لذلك.

البعد الوطني للحجاب

لو تحدثتُ عن الحجاب من الناحية الدينية، فإني أقول كما يقول المسلم العادي الذي لا يحب أن يصادم المعلوم من الدين بالضرورة والحريص على عقيدته ونجاته يوم الدين، ولو كان مقصرا في التزامه بأحكام الشرع هنا أو هناك، أن حجاب المرأة واجب شرعي انعقد عليه إجماع الأمة، ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين من السلف أو الخلف، مع اختلافات متحملة في شكله وشروطه ومسألة النقاب، وحسب أعراف وعادات المجتمعات المسلمة. وكل محارب للحجاب أو مضيق على من تضعه على هذا الأساس، هو محارب لله ورسوله.

ولو تحدثت عن الحجاب من الناحية المدنية وما يتعلق بالحقوق والحريات، فإن المرأة حرة في أن تلبس ما تريد، ما بقي لباسها في إطار الآداب العامة المتعارف عليها في المجتمعات السوية في مختلف الحضارات، فكل تضييق على لبس الحجاب والاحتفاء بلبسه، أو اشتراط نزعه لأخذ حقوق أخرى في االوظائف العامة، أو حتى في الوظائف الخاصة في المؤسسات السيادية، هو انتهاك للحقوق والحريات، والإمعان في ذلك دليل على أن الخلفية ثقافية أيديولوجية تعبر عن موقف معادٍ للديانة الإسلامية وحرية الاعتقاد بشرائعها. لا سيما أن دولا لا تدين بالإسلام، تمكّن المرأة المحجبة من أي وظيفة إذا كانت أهلا لها ولو في المؤسسات السيادية.

ولكن، لا أريد في هذه الدراسة أن أفصّل أكثر في البعدين الديني والمدني لمسألة الحجاب، ولكن أود أن أعود إلى علاقة الحجاب ببعد آخر جامع لهذين البعدين المذكورين، وهو البعد الوطني الذي تأسس في أثناء مقاومة الاستعمار الفرنسي، وخصوصا في أثناء الثورة التحريرية النوفمبرية، لنؤكد بالوقائع التاريخية علاقة الحجاب (الذي تلتزم به أغلب النساء الجزائريات)، بالتأسيس للفكرة الوطنية في مواجهة الفكرة الكولونيالية المتعلقة بالمرأة والأسرة، (التي لا تزال أقلية نافذة في الدولة والمجتمع تتبعها وتشتغل على أساسها).

إن لباس المرأة الحرة المتعففة الحجاب، إنما هو سجية غائرة في الزمن تعبر عن حياء المرأة وغيرتها على مفاتنها من أن تكون سلبا يتمتع بها الرجال، بلا ضابط يضمن حق ملكيتها الحصرية للجمال الأنثوي، ثم جاءت الأديان ترسخ ذلك، ويشرح الأمر العالم الفذ أبو القاسم سعد الله في ربط الصلة بين لباس الستر للمرأة المسلمة مع ما تلبسه المرأة في الديانات السماوية الأخرى، فيقول [عن الحجاب]: "وله قرابة كبيرة بجلابيب الراهبات النصرانيات منذ ما قبل الإسلام، كما بأزياء النساء العبريات منذ مملكتي يهوذا وإسرائيل، أما سبب هذه القرابة المثيرة، فيرجع إلى اشتراك الأديان التوحيدية الثلاثة في مبدأ أخلاقي عالمي، يتمثل في ستر مفاتن النساء".

غير أن العالَم المسيحي تعرّض إلى صراع نكد بين الديانة المسيحية المنحرفة والعلمانية المصادمة للفطرة، فكانت المرأة ساحة أساسية في المعركة، وحين تغلبت العلمانية سعت إلى "تشييء" النساء وجعلهن بضاعة مشاعة يلتهمها الرجال كيفما يشاؤون، فحورب الحجاب شيئا فشيئا، إلى أن أصبح العري وإباحة الأعراض في بلدانهم أمرا طبيعيا، بل صار المسخ يدخل الكنائس ذاتها، وسارت المرأة الغربية على هذا الانحراف بالفطرة كرد فعل غير متوازن على ما كانت تعانيه من دونية في المعتقدات الدينية المحرفة، ثم من عسف شديد في حقوقها في ظل الدولة العلمانية والماكنة الرأسمالية، خلافا للتكريم الذي منحه الإسلام للمرأة.

إن لباس المرأة الحرة المتعففة الحجاب، إنما هو سجية غائرة في الزمن تعبر عن حياء المرأة وغيرتها على مفاتنها من أن تكون سلبا يتمتع بها الرجال، بلا ضابط يضمن حق ملكيتها الحصرية للجمال الأنثوي، ثم جاءت الأديان ترسخ ذلك.
لم تفلح مخططات الاستعمار والديانة العلمانية الوضعية الجديدة، في المحصلة، في تفتيت الأسرة المحمدية وابتذال النساء المسلمات كما وقع للعالم المسيحي، بسبب حفظ الله تعالى للإسلام بحفظ كتابه العزيز مصداقا لقوله تعالى في سورة الحجر: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9))، وبقيت المرأة في العالم الإسلامي مركز الحفاظ على الهُوية الإسلامية، وكانت الجزائر من أكثر الدول التي أدّت فيها المرأة هذا الدور المحوري قبل الاستعمار وفي أثنائه، وإلى اليوم.

يصف المؤرخ الإسباني دييغو دي هاييدو ترسخ الحجاب في المجتمع الجزائري، في كتابه "طوبوغرافيا الجزائر وتاريخها العام" ( Topografía e historia general de Argel.) الذي نشر سنة 1612 وقد كتبه بين 1578 ـ 1581 في أثناء وجوده في الجزائر العاصمة، فيقول عن النساء: "كن يخرجن في الشوارع على درجة من السترة، حتى إن أزواجهن يعجزون عن معرفة هوياتهن". وحين حل الاستعمار ببلادنا، قدِر على أذية الرجال، ولكنه لم يجد حيلة في كيفية الوصول إلى النساء بسبب تحجبهن عن الأنظار وحجابهن الحامي لعفتهن، فتشكلت له هواجس نفسية مرضية تجاه الجزائريات، أمْلت عليه السياسات الهمجية التي اتبعها ضد المرأة المحجبة بعدئذ.

كان لحجاب المرأة الجزائرية أسماء كثيرة، منها؛ الحايك والملاية والملحفة والعباية وغيرها، وأشكال وألوان عديدة منها الملاية السوداء في الشرق الجزائري، التي يقال إن سبب لونها الأسود الحزن على استشهاد صالح الباي، زعيم المقاومة الشعبية في الشرق، ولكن قد يكون السبب بقايا الثقافة الشيعية منذ العهد الفاطمي، والأكثر انتشارا منه الحايك، في الوسط الجزائري وغربه وفي الوسط الشرقي، ويقال؛ إن الجزائر العاصمة تسمى الجزائر البيضاء (Alger la blanche) بسبب اللون الأبيض المنتشر في الشوارع عن طريق الحايك في الفترة العثمانية، وهناك الملحفة التي تلبسها المرأة الصحراوية، التي غالبا ما تكون سوداء أو بيضاء، ثم دخلت عليها ألوان متعددة.

كانت الملاية والحايك والملحفة تُستعمل عند الخروج من البيت، وتكون اليدان مشغولتين بالمسك بأطراف ما يُتحجّب به، وكان الوجه يغطَّى بجزء من قماش اللباس الساتر لكي لا يظهر من وجه المرأة إلا عين واحدة (بوعوينة)، أو يُغطّى الوجه بالعجار وهو قطعة قماش مستقلة تتنقب بها المرأة فيظهر من وجهها عيناها، وحين أتيحت الفرصة للمرأة للتعلم والعمل بعد الاستقلال، وجدت في شكل الحجاب الذي جاءت به الصحوة الإسلامية منذ نهاية السبعينيات الشكل الأنسب، لها لتكون يداها طليقتين لمزاولة ما عليها فعله في المدرسة أو في الوظيفة، ولذلك ترى أغلب النساء بأن الشكل الجديد للحجاب سمح لهن بنيل حقوقهن خارج البيت، دون الاضطرار لمخالفة أحكام الدين وثقافتهن المجتمعية، ثم صار الحجاب ظاهرة اجتماعية منتشرة عابرة لكل المكونات الشعبية، لا تحدها ولا تؤطرها جماعة دينية أو حزب سياسي أو تيار أيديولوجي.

لقد مثل هذا التطور في الالتزام بالحجاب هزيمة نكراء في الحرب الثقافية، التي شنها الاستعمار الفرنسي ضد الأسرة والحجاب، الذي لا يزال أذنابه يواصلونه بعد الاستقلال.

منذ أن وطئت أرجل الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر بدأ في محاربة الحجاب، فصدر سنة 1830 في المجلة العسكرية ضمن القوانين التي تحدد سلطة الجيش الفرنسي، حظر لبس الحجاب في الأماكن العامة، وتم تنفيذ عقوبات ضد المرأة التي تخالف الحظر ولكن التدبير لم ينجح، كما قامت بمحاولات حثيثة لتحريف المرأة الجزائرية عن دينها وثقافتها، من خلال السياسة التعليمية بمنع الفتيات المسلمات اللواتي أتيحت لهن فرصة التمدرس من لبس الحجاب بمختلف أشكاله في المدرسة.

لقد شعر الاستعمار منذ دخوله الجزائر بأن إخضاع الجزائريين غير ممكن ما بقوا يسيّرون أسرهم بقوانين الأحوال الشخصية، التي حافظوا عليها على هامش قوانين الاستعمار بعد سقوط دولتهم. فمع حلول الجمهورية الفرنسية الثالثة في عام 1871، أصبح سكان الجزائر من المعمرين، شذّاذ الآفاق الذين جاؤوا من مختلف أنحاء أوروبا، فرنسيين يحق لهم انتخاب ممثليهم في مجلس النواب، ولكن الجزائريين المسلمين حرموا من ذلك بضغط من المعمرين وعساكرهم، الذين اشترطوا على المسلمين التخلي عن قانون الأحوال الشخصية (المرتبط بالشريعة الإسلامية)، ورفعوا آنذاك شعارات فيها صور لنساء محجبات ومكتوب عليها: "سيكون بمقدوركم الانتخاب حين تخلع نساؤكم الحجاب". وقد بيّن ذلك بالشواهد الكاتب والصحفي جان بيار سيريني (Jean pierre Sereni)، رئيس التحرير السابق لمجلة الإكسبرس الفرنسية.

رغم التضييق المستمر والحرمان الممنهج جراء قانون الأهالي، بقي الشعب الجزائري صامدا متمسكا بهويته، وكان التجنس والاندماج في المجتمع الفرنسي إثما من الناحية الدينية وعارا في القواعد الاجتماعية، يتوافق عليه العلماء ونخب الحركة الوطنية والأغلبية الساحقة من الجماهير الجزائرية، وضمن هذه المقاومة الثقافية الشاملة، بقيت المرأة الجزائرية متمسكة بحجابها ولم تندمج في الثقافة الفرنسية إلا عدد قليل من الجزائريات، وصار الحجاب بكل أنواعه (الحايك، الملاية، الملحفة..) رمزا وطنيا للتميز عن المستعمر الظالم، بله كونه حصنا دينيا لحماية الأسرة الجزائرية من التفسخ والتفكك.

لم تفلح مخططات الاستعمار والديانة العلمانية الوضعية الجديدة، في المحصلة، في تفتيت الأسرة المحمدية وابتذال النساء المسلمات كما وقع للعالم المسيحي، بسبب حفظ الله تعالى للإسلام بحفظ كتابه العزيز مصداقا لقوله تعالى في سورة الحجر: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9))، وبقيت المرأة في العالم الإسلامي مركز الحفاظ على الهُوية الإسلامية، وكانت الجزائر من أكثر الدول التي أدّت فيها المرأة هذا الدور المحوري قبل الاستعمار وفي أثنائه، وإلى اليوم.
لم تكن مشاريع سلخ المرأة الجزائرية عن هويتها وتجريدها من حجابها عمليات عسكرية اندفاعية فحسب، بل كانت تخضع لدراسات اجتماعية ونفسية، فهذا الجنرال “أوجان دوما" (Eugène Daumas, 1803 ـ 1871 ) الذي أتقن اللغة العربية، وصار خبيرا بالمجتمع الجزائري وعين قنصلا لدى الأمير عبد القادر في أثناء قيام دولته، ثم مرافقا له عدة مرات في أماكن سجنه بعد إنهاء مقاومته، كتب عدة كتب عن الجزائر أهمها دراسته "المرأة العربية" من أربعة عشر فصلا، وتوصل ـ بعد معرفة عميقة بدور المرأة المسلمة في تحصين المجتمع من الاختراق الاستعماري ـ، إلى أنه لا يمكن لفرنسا أن تتحكم في المجتمع المحلي في الجزائر دون تمزيق الحجاب الذي يلف جسم المرأة.

وهذه الكاتبة والصحفية الفرنسية النسَوية هوبرتين أوكليرك Hubertine Auclert  (1848 ـ 1914)، توصلت هي الأخرى بعد مكوث أربع سنوات في الجزائر بين 1888- 1892 في كتابها "النساء العربيات في الجزائر"، إلى أن الإسلام هو الذي يمنع المرأة الجزائرية أن تكون فرنسية، ورغم اتهامها السلطات الفرنسية بمنع حقوق الأهالي، فقد دعت جيش الاحتلال إلى فرنسة المرأة الجزائرية وتخليصها من حجابها، وسار على دربها كثير من النَسويات في أثناء الفترة الأولى للاستعمار، منهن مجموعة من النساء كتبن كتبا بعنوان واحد “أخواتنا المسلمات” لاستيعاب المرأة الجزائرية المسلمة ضمن الثقافة الفرنسية، ومن هؤلاء الناشطة المشهورة ماري بوجيجا ( Marie Beaugéja) تلميذة أوكليرك وصاحبة كتاب بنفس العنوان صدر سنة 1921.

ثم تكثف اهتمام السلطات الفرنسية بمسألة حجاب المرأة الجزائرية بين 1930-1935، وفق ما ذكره الطبيب الفرنسي فرانس فانون، الذي اندمج في النضال الجزائري ضد الاستعمار في مساهمة طويلة له نشرها يوم 16 ماي 1957 في جريدة "المقاومة الجزائرية"، تحت عنوان "الجزائر تخلع الحجاب"، يبين فيها الاستراتيجية الاستعمارية لهزيمة الثورة الجزائرية، من خلال محاربة الحجاب، فيقول: "لقد بات المجتمع الاستعماري يتصرف، بكل قيمه وركائز قوته وتنوع فلسفته، بشكل موحد تجاه خمار المرأة، وقبل اندلاع الثورة التحريرية أطلقت السلطات الفرنسية المعركة الفاصلة لتدمير أصالة الشعب الجزائري، واستعمال كل السلطات لتفكيك أي شكل من أشكال التعبير، من قريب أو من بعيد، عن وجود حقيقة وطنية جزائرية، وتم توجيه أغلب الجهود إلى ضرب لباس الخمار"؛ باعتبار "أن الحجاب هو المظهر الوحيد المعبر عن الانتماء الوطني، الذي لا يمكن إخفاؤه في المجتمع الجزائري المسلم تحت الاحتلال".