هناك عشرات المفكرين والعلماء والباحثين
الغربيين الاستعلائيين، وذوي النزعات العنصرية المعلنة والمستترة، الذين ظلوا
يروجون لفكرة أن الإنسان الغربي هو الأكثر قدرة على الإبداع والابتكار والاكتشاف،
لأنه متفوق جينيا على شعوب إفريقيا وآسيا وسكان أمريكا الجنوبية الأصليين، إلى أن
جاء كتاب الأمريكي جاريد داياموند "بنادق وجراثيم وحديد صلب" في عام
1998، وقلب الطاولات على هؤلاء، بأن أثبت، وبحكم إلمامه بعلوم الأنثروبولجي
والأحياء واللسانيات والتاريخ، وبحكم معايشة شعوب غينيا الجديدة (شمال أستراليا)
والجزر المجاورة، والذين يوصمون بالبدائية لربع قرن كامل، أن أوروبا الغربية بنيت
على أفكار وابتكارات شعوب آسيا وأفريقيا.
من المحسوم علميا في ضوء اكتشافات أثرية
يعود بعضها إلى ملايين السنين، أن أقدم سلالات بشرية (ومن ثم آدم وحواء) عاشت في
أفريقيا، وبتكاثر أعدادهم على مدى آلاف السنين بدأ نزوح بعضهم شرقا إلى آسيا،
وشيئا فشيئا إلى جزر المحيط الهندي (أرخبيل إندونيسيا وما يجاوره)، ثم أستراليا،
مما يعني أن أسلافنا الذين يوصفون بالبداوة (البدائية) هم أول من استخدم الزوارق
قبل آلاف السنين وهاجروا وعمروا أقاليم لم تكن تسكنها سوى الحيوانات البرية.
ما قاله داياموند في كتابه ذاك ونال به
التقدير وجائزة بوليتزر ـ التي هي أوسكار الكُتّاب ـ هو أن العوامل الجغرافية هي
التي أدت إلى تقدم بعض المجتمعات و"تخلف" بعضها، والتخلف هنا بمعنى
الافتقار للأدوات التي تجعل الحياة أكثر سهولة، والمجتمعات أكثر ترابطا وتنظيما،
والثابت علميا وتاريخيا هو أن بلاد ما بين النهرين (العراق) ومنطقة الهلال الخصيب
هما أول من عرف الزراعة في العالم، ومنهما نقل المهاجرون الخبرات الزراعية إلى
الصين، ووقتها كانت أوروبا الغربية قليلة السكان ولا يعرف ساكنوها غير الصيد وجمع
الثمار، وما يدحض تماما تفوق ما صار يعرف بالجنس الأبيض على بقية شعوب العالم، هو
أنه وعند قيام الحضارات الكبرى قبل آلاف السنين في مصر والعراق والصين على حواف
الأنهار مبدعة فنون معمارية مبهرة ومجيدة للقراءة والكتابة، كانت أوروبا لم تكمل
الانتقال من العصر الحجري الوسيط.
وجميع أنواع الحبوب والفاكهة المتداولة في
عصرنا الراهن لم تكن بنفس مذاقها وشكلها الحالي، فالانتقال إلى عصر الزراعة الذي
كان بمثابة أكبر ثورة ونقلة في تاريخ البشرية، تطلَّب تأليف وتدجين الكثير من
الحبوب التي كانت تنبت في البرية، إلى جانب استئناس الحيوانات التي صارت تعرف
بالمنزلية والحقلية. والزراعة نشاط موسمي، تتخلله فترات راحة، في انتظار نضج
المحاصيل أو في انتظار دورة زراعية جديدة بعد الحصاد وتخزين المحاصيل، مما أتاح
لممارسي الزراعة فترات فراغ يفكرنا فيها في كيفية تطوير أدوات الزراعة واستغلال
الإنتاج الحيواني، كما أن الزراعة تطلبت وجود نظم تحدد الملكيات وجداول جريان
المياه، وتحصين المزروعات ضد هجمات الحيوانات السائبة، وشيئا فشيئا تشكلت سلطات
محلية ثم إقليمية ثم مركزية تنظم
العلاقات بين المزارعين، فكانت تلك نواة ما صار
يعرف بالحكومة، والشاهد هو أن التاريخ يشهد بأن أهل العراق والشام الكبرى هم من
علموا أوروبا كيف وماذا تزرع، وبالتالي كيف تنتقل من حياة الصيد والاعتماد على جود
الطبيعة إلى مجتمعات منظمة تمارس نشاطات منظمة، ومن الثابت تاريخيا أيضا أن
الأفكار والمحاصيل والسلع هاجرت من الشرق إلى الغرب، لأن الأرض تدور شرق ـ غرب
ولهذا فإن البلدان التي تقع على نفس خطوط العرض تتشابه فيها الأحوال المناخية
والبيئة.
منذ نحو القرن الخامس عشر عاش الأوروبيون
على وهم أنهم الجنس الأكثر رقيا في العالم، بل إن بعض علماء أوروبا العنصريين
طوعوا نظرية أصل الأنواع لتشارلس داروين لإثبات أنهم الجنس الأصلح للبقاء، ومن ثم
تبرير العدوان الأوروبي على شعوب البلدان الأخرى وإشباعهم قتلا واستغلالا، بينما
يقول داياموند أن كل ما هناك هو أن الأوروبيين سبقوا الأفارقة وأهل أمريكا
الجنوبية في اكتشاف واستخدام الحديد، ومن ثم حازوا أسلحة تفوق نظيرتها الخشبية لدى
الشعوب الأخرى، كما وأنه يعزو النمو والزيادة السكانية المطردة في أوروبا إلى عامل
الصدفة الذي وقى أوروبا من موجات الطاعون الأسود والجدري وغيرها التي فتكت بشعوب
القارات الأخرى.
منذ نحو القرن الخامس عشر عاش الأوروبيون على وهم أنهم الجنس الأكثر رقيا في العالم، بل إن بعض علماء أوروبا العنصريين طوعوا نظرية أصل الأنواع لتشارلس داروين لإثبات أنهم الجنس الأصلح للبقاء، ومن ثم تبرير العدوان الأوروبي على شعوب البلدان الأخرى وإشباعهم قتلا واستغلالا،
وبعيدا عن حجج هذا الطرف أو ذاك انظر في
عالمنا المعاصر إلى حال الطفل الأوروبي مقارنة بحال طفل في إفريقيا جنوب الصحراء:
الأول أي الأوروبي يملأ وقته بما يمكن أن نسميه الترفيه السلبي، فهو يعتمد على
التلفزيون والأنترنت في تزجية الوقت، بينما يتعين على نظيره الأفريقي أن يشيد
ويصنع ما يلعب به بيده وعليه توخي الحذر لتفادي الحشرات الضارة والحيوانات
الضارية، وقد يكون من واجبه المساهمة في النشاط الاقتصادي للعائلة مثل حلب الأغنام
أو جلب العلف لها، وبداهة فإن نمط حياة الطفل الأفريقي يفرض عليه إعمال العقل
وعضلات الجسم للترويح عن النفس وليكون عضوا صالحا في مجتمعه ومنتجا.
وبشأن فرضية أن العيش في منطقة ذات طقس
معتدل وبارد هو الذي جعل الأوروبيين يتفوقون على الأجناس الأخرى، يقول داياموند
إنه من الصحيح الزعم بأن العيش في المناطق الباردة تطلب الاستعداد لاستقبال الشتاء
بتشييد منازل من المواد الثابتة وابتكار وسائل لتخزين الغذاء، ولكن كافة وسائل كسب
العيش وإدارة شؤون الحياة (الزراعة والعجلة والكتابة مثلا) جاءت إلى أوروبا من شرق
آسيا حيث الأجواء الدافئة.
والغربيون يؤرخون لأمريكا فقط بعد وصول
كولمبس إليها، مع أن من عمروها قبل آلاف السنين أتوا إليها من آسيا وتحديدا من
سيبيريا عبر مضيق بيرينغ، إما خلال فترات كان فيها الجليد يشكل جسرا ما بين آسيا وألاسكا، أو باستخدام القوارب، وعبر القرون انتشروا جنوبا حتى المكسيك، ثم جاء الرجل الأبيض
في أعقاب كولمبس وأباد سكان أمريكا الأصليين أو كاد، ونصب نفسه حاملا لواء الرقي
والتقدم والتحضر، ثم وبعد عام 1945 تولى الفتك بشعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا
اللاتينية باسم الحرية والعدالة والديمقراطية.