مقالات مختارة

مصر: هل نحن مقبلون على "جبهة إنقاذ" جديدة؟

1300x600

كموشكٍ على الغرق تلقف الكثيرون ممن تبقى من العاملين (على استحياء) والمهتمين بالمجال العام في مصر تلك الدعوة إلى الحوار، فهو لن يحجم أو يتردد عن التعلق بأتفه وأضأل قشةٍ، أو سيستهلك آخر أنفاسه الشحيحة العزيزة سباحة نحو طوق نجاةٍ مفترض، مادّا ذراعه على استقامته حتى ليكاد ينخلع.

 

لن يتوقف ليدرك أن هذه القشة أوهى من أن تتحمل ثقله، ولا ليرى أن طوق النجاة ذاك حبله مقطوع.. أنه منبتٌ طافٍ في الفضاء تماما، بعيدا عن أي سياقٍ أو صلةٍ قد تمكنه من إنقاذ أي شخصٍ كائنا من كان، أو إيصاله إلى أي برٍ أو أرض نجاةٍ ثابتةٍ طافية.


في هذه المرة (دونا عن غيرها واليتيمة ربما) أجدني لا أستطيع أن أنتقد موقف السيسي، فتلك الدعوة للحوار هزيلة للغاية، جاءت في سياق حفل إفطارٍ دُعي إليه حفنةٌ من «المعارضين»، فيهم مرشحٌ رئاسي سابق وآخرون من أولي المعارضة «الناعمة»، إما منذ أمد بعيد وإما مؤخرا، بعد أن اصطدموا بجدار الدولة الصلد وسقطوا، أو شاهدوا قبضتها الخشنة، فتجد منهم على سبيل المثال من أُعيد تأهيله (وتلميعه نوعا ما) بفترة سجنٍ، ووصلوا جميعا لقناعةٍ باستحالة أي تغييرٍ بعيدا عن التفاهمات مع النظام. ليس ذلك فحسب، بل لقد قضى السيسي جل وقته في تبرير انحيازاته واختياراته وأسلوبه في الحكم. المدهش حقا والمنتقد بالتبعية، هو تلك الجدية التي تم بها تلقي تلك «الدعوة»، ما يستدعي ويستلزم وقفة.


لقد كتب وتحدث كثيرون عن شروط هذا الحوار ومواضيعه الأساسية، وعلى رأسها فتح المجال العام وإطلاق سراح الناشطين ومسجوني الرأي، لكنني أرى في حقيقة الأمر أن الأمر برمته يدعو إلى الرثاء، وأننا أمام مشهد يستدعي إلى الذهن مسرح العبث واللامعقول، فكلهم في قرارة أنفسهم يدركون أن تلك الدعوة والأمر برمته ليس سوى مناورةٍ اضطر الظرف السيسي إليها، لكنهم يقولون لأنفسهم أيضا إنه لا خيار أمامهم سوى المضي معه في اللعبة والتظاهر بأنهم يصدقون، وأن هناك إمكانية فعلية للحوار، يمثلون الجدية، فأولئك الذين رحبوا ووضعوا بنودا أساسية، يدركون جيدا أن السيسي لا نية لديه مطلقا لتقديم أي تنازلات حقيقية ذات شأن؛ كما أنهم جميعا من الفطنة والذكاء والحذق ما يدركون به تماما السبب وراء تلك الدعوة.


تعيش مصر أزمة اقتصادية خانقة، فالعملة المحلية في انخفاضٍ أمام الدولار، والديون لم تزل تتراكم ومعها أقساط فوائدها واستحقاقاتها التي تستلزم فرض ضرائب وطرق جباية أخرى تضرب الناس مزيدا في دخولهم، التي ينهشها الغلاء أساسا، وأُضيف إلى ذلك، خطرٌ على إمدادات القمح ومن ثم سعر الخبز. إن سُحب الأزمة تتجمع وتتكاثف في الأفق، وليس أدل على ذلك من أنها أنزلت السيسي من برج جنون عظمته، ليدرك أن ثمة خطرا آخر يتهدده خارج الإخوان المسلمين والمعارضة السياسية، التي عقد النية على سحقها بأقسى ما لديه من أدوات، والتي تصل عداوته وكراهيته لها حد التشاؤم من إخراجها من السجن، وبات إبقاؤها حبيسة ركنا وثابتا من ثوابت النظام.

 

لم يدفع السيسي نحو تلك الدعوة سوى الإدراك بأن مواجهة تلك الأزمة يقتضي معالجة سياسية، وليس فقط أمنية، خاصة أنه على الرغم من مشاغل العالم الخارجي والقوى الغربية، تحديدا بمجريات الحرب بين روسيا وأوكرانيا والصراع المتشكل بين الغرب والشرق بصورة أعم، إلا أن مصر كانت ولم تزل تحتل مركزا جغرافيا محوريا، قد تزيد أهميته في المستقبل؛ نظرا لتلك المستجدات، ومع الحرص على استقرارها، أو على الرغم عنه، فإن مواجهات دموية عنيفة بين النظام وما قد يجد ويندلع من مظاهر احتجاج على تردي الأوضاع المعيشية، ليست مما يُسكت عليها لما ينذر به من تهديد لمصالح تلك الدول، ولعل ذلك هو أرجح تفسير لضغط تلك الدول في ملفات حقوق الإنسان والحريات السياسية، بعيداًعن أو بالإضافة إلى كونها وسائل للابتزاز السياسي، لذا فالسيسي لم يزل في متاهته وحيرته، فهو من ناحية متوتر قلق يخشى من المستقبل ومن احتمال تمردات هنا وهناك، خارج أي تنظيم سياسي، من جراء الأزمة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى يخشى إطلاق سراح الأسرى، فهو يتشاءم من ذلك ولم تزل ذكريات يناير التي لم ير فيها سوى انفلات وفوضى تتسلط عليه، ولم يخرج منها بدرس سوى أن هامش الحرية الذي مرّ من بوابة «خليهم يتسلوا»، الذي سمح به مبارك هو ما أدى إلى تلك النتيجة.


في غياب قوى سياسية تستند إلى قاعدةٍ شعبية، يظل ميزان القوة دائماً وأبدا في صف النظام الذي يحتكر أدوات العنف من أجهزة أمنية وعسكر وسلاح.


من منطلق الحاجة إلى غطاء سياسي وبناء مخايل حياة سياسية قائمة على التعددية، وبغرض امتصاص ذلك النقد والاستعداد لأية قلاقل مدّ السيسي يده لأناس من خارج النظام، آسفُ أن أقول إنهم «دُجنوا» بشكل ما أو بآخر، لتحقيق غرضه بحيطة متناهية، وليس أدل على ذلك من الأعداد الهزيلة التي أُطلق سراحها. في المقابل لاقت دعوته قوى أنهكتها الضربات الأمنية طيلة عقود، أغلبها لا يقف على أرضية صلدة من قاعدة شعبية، تعاني الإهمال وعدم الاكتراث من جمهور زُيف وعيه وعاد إلى طلاق السياسة بعد أن أُحبطت ثورته، ولم يعد يرى فيها إلا جالبة الخراب، جمهورٌ يعيش ليل الثورة المضادة الكئيب.

 

هذه القوى للأسف مسكونة بالهزيمة، وبشبه يقين بأن الاصطدام بالنظام مدمرٌ دائما، وأن أي حلّ من ثم لا بد من أن يمر عبر اتفاق، صفقة أو صيغة تعايش، ما «يمنحهم» بموجبها قدرا ولو ضئيلا من الوجود والظهور، بالطبع في إطار حدود حمراء، دائرة ضيقة للغاية، لا يُسمح لهم بتخطيها، معارضةٌ مسكونة بالإيمان بإمكانية «الإصلاح من الداخل»، بل إنه لا وسيلة ممكنة إلا ذلك، وأنهم أفضل المرشحين لهذه المهمة التاريخية المقدسة، وما تلك المغازلات إلا الثقب في الجدار الذي سيتسللون منه إلى قلب الجدار لتوسيعه، ومن ثم توسيع المكاسب حتى يصلوا إلى الإصلاح في أمد قد لا يتجاوز هذا القرن (وربما الألفية؟).


في إعادة للتاريخ، هزلية بالضرورة، وعقب قمع أسطوري وتجريف واستبداد وتبديد، يشرع السيسي لبداية «جبهة إنقاذ وطني» جديدة، أيضا بدعاوى الإصلاح، ولعل الفارق هذه المرة أن الأمور من المفترض (على الأقل هذا تصوري) باتت أوضح، فالمطلوب إنقاذه هو النظام، بكل بساطة؛ وينبغي على المعارضة أن تفهم أنه لو نجح هذا المسعى فلن يلبث النظام أن يتخلص منهم، ما إن ينقضي الغرض، فواقع الحال أنه في غياب قوى سياسية تستند إلى قاعدة شعبية، يظل ميزان القوة دائما وأبدا في صف النظام الذي يحتكر أدوات العنف من أجهزة أمنية وعسكر وسلاح. لست مزايدا على أحد، وكل ما أرجوه أن يترفعوا عن الكرسي، أو اثنين التي سيمنحونها في مجلس شعب لا فاعلية له على الإطلاق! أتمنى أن يحرموا النظام من ورقة التوت.


كلا لست مزايدا ولكنني أنبه.. وربما هي زفرة إحباط مما وصلنا إليه من بؤس، ومن مستقبل يحمل في طياته مزيدا من المعاناة.