مقالات مختارة

حربٌ طاحنةٌ في أوكرانيا… ولم نزل ننتظر الفرج

1300x600

أكثر من ثلاثة أسابيعٍ مضت على بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، ولم تزل العمليات الحربية مستمرةً، بل تتعالى وتيرتها وسط قصفٍ جويٍ وبري يكاد لا يقف أمام شيءٍ ولا يعرف هوادة، والشاهد أن ثمة تصعيداً في الرغبة في التدمير، لكسر الإرادة الأوكرانية وإيصال رسالةٍ مفادها أن روسيا، وبوتين بالتحديد لنكون أدق، لن توقفه أي اعتباراتٍ إنسانية.


من الملاحظ والمدهش أيضاً أن هذا الأخير لم يعد يكتفي باتهام خصمه في الجانب الأوكراني وسياسييه بالنازية وإدمان المخدرات (وهذا الأخير من أعجب ما سمعنا)، بل لقد طال معارضي الغزو في روسيا نفسها، حيث اتهمهم بالانحياز للغرب، ومن ثم وصفهم بالخونة والحثالة، مستحضراً في أذهاننا أشاوس العالم الثالث، خاصةً في منطقتنا العربية العامرة، مستعيراً من قاموسهم العامر المرصع بالبذاءات.


في المجمل، ومع طول العمليات العسكرية، وفي حال لم تجافِ تقديرات الغرب لحجم الخسائر الروسية الدقة تماماً فإننا نستطيع أن نستنتج بدرجةٍ ما من الثقة توتراً متزايداً لدى بوتين، قد يُفسر بإدراكه بأن مستقبله السياسي معلقٌ بنتيجة هذه الحرب، ومن ثم فهو لا يملك رفاهية التراجع والخسارة الآن، لما قد يسببه ذلك من إضعافٍ لموقفه داخلياً، خاصةً بعد ما اقترن ذلك بخسائر اقتصادية، جراء المقاطعة الغربية.


ثمة شهاداتٌ وآراءٌ عديدة عن أن تمدد حلف الأطلسي، والمخاوف من ثم من انضمام أوكرانيا إليه هو ما شكل الاستفزاز أو «الملاءة الحمراء» التي أهاجت الثور الروسي، وبغض النظر أصح هذا أم لا، فإن وراء ذلك ما هو أعمق من ذلك: وراءه تصورٌ قوميٌ شوفينيٌ متعصب، يسكن عميقاً في عقل وروح بوتين ورغبةٌ، بل تصميمٌ لاستعادة نفوذ روسيا السوفييتية، الذي كان على محيطها وعلى تلك الدول التي تشكل منها الاتحاد، لكن من دون الشعارات الأيديولوجية وقطعاً من دون أي مساواة أو احترامٍ ولو مُدعى للقوميات التي تشكل منها الاتحاد السوفييتي السابق؛ بل المنشود هو سيادة وهيمنةٌ روسيةٌ مستعلية على تلك الدول التابعة حتماً، والتي يروى كثيرون أنها لم تكن إلا عبئاً أرهق روسيا، وربما يكون الخوف من تمدد حلف الأطلسي لأوكرانيا قد خدم بوتين نوعاً ما بإتاحة الفرصة له لفرض حضوره وتأكيد ذلك الدور الذي يرجو. الأكيد أن ذلك رهانٌ عسكريٌ سياسيٌ خطير، لعله الأخطر والحاسم في مسيرة بوتين السياسية. لكن كما ذكرت في مقالي السابق، فإن هذا الصراع ما هو إلا تكالب على اقتسام الحصص والغنائم، ولن يخرج من عباءته أي تحرر. تطرقت سابقاً إلى موقف شعوبنا وإلى أصواتٍ تعلو شامتةً في القتلي، ولا شك في أن ثمة جدالاً بين المتحمسين لكلي الطرفين، إلا أنني على الرغم من فهمي وتفهمي لمدى عمق المرارة والقهر من ظلم وإجرام الدول المتحاربة في حق شعوبنا، لا أشعر سوى بالأسف، إذ أجد أن نوعية الحجج والطروحات التي تُقدم، تفضح إفلاساً وذهنيةً عربيةً مأزومةً بعمق. فالمواقف تغلب عليها العاطفة والتشفي أكثر من أي شيء، نظراً لجرائم ومظلوميات تاريخية وحديثة بشعة، لم يزل كلا الطرفين يرتكبها في حق شعوبنا أكبر وأكثر من أن تحصى في أماكنها وعدد ضحاياها، والعراق وسوريا أقرب مثالين؛ فخارٌ يكسر فخاراً، هكذا يرون. بالطبع لن أجادل في مدى إجرام هذه الدول، ولا في كيلها بمكيالين، لكن ما يزعجني حقاً هو تصور أن خيراً ما قد يصلنا من جراء صراعها، إنه لن يثأر لنا فحسب، وإنما سيجعلها تتركنا في حالنا فنفلت من تحت مراقبتها ووصايتها وننعتق.


هذا وهم الأوهام


كما أنه من العبث أيضاً تصور أن أحد هذه الأطراف سينقلب على إسرائيل (ما لم تتورط في معاداته، ولا أراها تقبل على حماقة كهذه) ناهيك من أن يدعم استردادنا لحقوقنا منها، ويتحتم ألا ننسى أن أنظمتنا ليست معنيةً بقضية فلسطين من الأساس.


كل ما قد يؤدي إليه هذا الصراع الرأسمالي الشرس هو المزيد من التنازلات والتغاضي من قبل الدول المتحاربة على تجاوزات وعنف وإجرام الأنظمة التي تحكمنا، وعلى الأغلب الرشى بالمزيد من التسهيلات والدعم لها، أما الربح المادي فسيتجسد في زيادة أرصدة الدول المصدرة النفط وعائداتها المالية، أومن سيترزقون بفتات الحرب كحق المرور مثلاً، أو تقديم أي تسهيلاتٍ خدمية أو محاربين مرتزقةٍ. فقط، لا غير.

 

لن تتسبب هذه الحروب في أي مساحةٍ ولو تافهة أو بسيطة من الحرية في بلداننا، بل الأرجح أن هذه مهددةٌ بالتآكل والزوال، لأنه في انشغال الدول المتصارعة ستنقض عليها أنظمتنا، كما أنهم سيمررون حزماً جديدةً من الخصخصة والانتقاص من الدعم وشبكات الضمان الاجتماعي، وسيلقون باللائمة على الحرب، وما أدت إليه من زيادة الأسعار، خاصةً في الطاقة وباقي السلع بالتبعية. من المحزن أن كثرةً في شعوبنا لم تزل تنتظر الفرج من عند الله حلاً لمشاكلها، وترى وتأمل في حلٍ وتحررٍ وردٍ للحقوق المغتصبة، يأتي كنتيجةٍ عارضة بمحض الصدفة تماماً من جراء تطاحن قوى استعمارية، والأكثر بؤساً هو الرهان على بوتين، الذي يجسد كل مثالب وسلبيات الحكم الأوتوقراطي، الذي لا يؤمن سوى بالرئيس القائد على قمة هرمٍ من البيروقراطية الكفؤة، التي تنفذ وتتفنن في إنجاز المهمات، من دون المناقشة في الصواب ولا الآثار المترتبة. إن للتحرر واسترداد الحقوق أثماناً لا بد وأن تُدفع، وسوى ذلك فلا مخرج من أزماتنا، ولن يأتي الفرج صدفةً أو عطيةً من أحد ولا بقيادةٍ مخلصٍ منتظر.

 

(القدس العربي اللندنية)