كرّر الطبيب السوري القاتل،
علاء موسى، أكثر من مرّة أمام هيئة المحكمة الألمانية التي يُحاكم أمامها بتهمة
جرائم قتل ضد المعارضين السوريين، التعريف بنفسه على أنه مسيحي، ولم يكن مطلوباً منه التعريف بديانته، لكن المتهم فعل ذلك بقصد التأثير على هيئة المحكمة الألمانية، التي ينتمي أغلب أعضائها للديانة المسيحية، وكأنه يعتقد في قرارة نفسه أن لعبه لهذه الورقة سيغير مجريات المحكمة، ويحوّله من جلاد إلى ضحية!
يمثل علاء موسى
صورة حقيقية لنظام
الأسد، سواء من خلال ثقافته وأسلوب تفكيره، أو باحتقاره لأغلبية الشعب السوري واعتقاده أن هؤلاء لا يجب أن يثوروا، ولا يحق لهم فعل ذلك، لأن هذا الأمر يؤثر على المعادلات الموجودة في
سوريا، على الأقل منذ حكم نظام الأسد، وما ظهر مؤخراً من حديث عن تحالف الأقليات التي يجب أن تبقى مسيطرة على زمام السلطة، ودور الأكثرية ضمن هذه المعادلات يجب ألا يتعدى دور المحكومين والخاضعين، وإلا فلا خيار آخر سوى قتلهم بكل الطرق، وعلى العالم أن يكافئ القتلة لأنهم خلصوه من خطر ماحق.
على مدار سنوات الثورة في سوريا كان إعلام نظام الأسد، والمثقفون المؤيدون له في الخارج، عرباً وأجانب، يصورون الثوار على أنهم متوحشون وجاءوا من خارج منظومة القيم العالمية الحديثة. في سوريا مثلاً كنا نسمع رواية كانت تنشرها أجهزة المخابرات، وهذه الرواية كانت تحصل في جميع المدن والأرياف السورية. ومختصر الرواية أن بعض المتظاهرين مروا من أحد الشوارع الموالية، فتم إلقاء القبض عليهم، وقام الموالون بتضييفهم وطمأنتهم، وبعد ذلك أحضروا قلما وورقة وقالوا لهم اكتبوا لنا كلمة الحرية، فيرد عليهم المتظاهرون المُلقى القبض عليهم بأن جميعهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، فيسألهم الموالون: إذاً لماذا تتظاهرون بطلب الحرية؟ فيردون عليهم بأنهم لا يعرفون، كل ما في الأمر أن أحدا طلب منهم الخروج في التظاهر وترديد شعار "بدنا حرية"!
بالطبع ليس من الصعب اكتشاف زيف هذه الرواية لأسباب عديدة، منها أن التعليم في سوريا كان إلزاميا حتى نهاية المرحلة الإعدادية، وأن درعا مثلاً احتفلت في بداية الألفية بوصولها إلى نسبة متعلمين 100 بالمئة، كما يتذكر أبناء سوريا أن سنوات ما قبل الثورة كانت تشهد تنافساً كبيراً بين الأهالي؛ على تدريس أبنائهم في تخصصات الطب والهندسة والصيدلة. وأكثر من ذلك، تشكّلت فرق ما يسمى بـ"الشبيحة" المختصة بقمع المتظاهرين، من الأشخاص الأدنى تعليماً والأقل استيعابا للمتغيرات التقنية، وخاصة الإنترنت، وبالتالي الأقل اطلاعاً على ثقافة العصر وروحه واندماجاً معهما.
كان نظام الأسد يدرك هذه المعطيات جيداً، والمفارقة أنه كان يصنفها في إطار إنجازاته، لكن هذا التحوّل الرهيب، وإنكار هذا الواقع، كان أحد آليات حربه على المعارضين، فوصفهم بالجهل والتخلف مدخل لتبرير قتلهم وإبادتهم، وما داموا هم كذلك فيجب ألا يصلوا للسلطة بأي وسيلة.
وزير خارجية فلاديمير بوتين نفسه اعتبر أن وصول السنّة للسلطة كارثة يجب عدم السماح بها، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يصف الثوار بأنهم أكلة قلوب وأكباد، لأن ثائراً انتقم لاغتصاب أمه وأخته بقتل خصمه وأكل قلبه، فيما لم يأت بوتين على ذكر مذابح داريا والمعضمية والبيضا وعشرات المذابح التي ارتكبها الطرف الآخر، بالسكاكين والسواطير وبقْر بطون الحوامل والتمثيل بالجثث، وراح ضحيتها الآلاف.
لم ينس الطبيب الجلاد أن يسرد أمام
المحكمة سيرته كمتعلم وطبيب وأنه ينتمي لأسرة متعلمة وراقية، كان يكمل بذلك سردية نظام الأسد بأن الحرب بين طرفين؛ أحدهما متعلم وراق وعصري، وهؤلاء هم البيئة الحاضنة للنظام، والطرف الآخر همجي ومنحط أخلاقياً وقيمياً. والمشكلة أن الأسد نفسه في لقاءاته مع الوفود الأوروبية اليمينية التي كانت تزوره؛ كان يكرّر على أسماعهم أن القادة الأوروبيين الذين يعترضون على حربه على الأكثرية السورية إنما يضرون شعوبهم، لأن الأصح أن يؤيدوه ويمنحوه الأدوات اللازمة لقتل أكبر عدد منهم، في حين ذهب الإعلام الروسي إلى وصف الناجين من
مذبحة الأسد والهاربين إلى أوروبا بـ"الهمج" الذين سيدمرون الحضارة الأوروبية!
الغريب في حالة علاء موسى، وغيره من المؤيدين؛ أنهم كانوا شهوداً ويعرفون جيداً من هو الضحية ومن هو الجلاد. المشهد كان أمامهم مكشوفاً، كانوا يشاهدون عمليات القتل والسحل في الشوارع والاعتقالات العشوائية، وهذه كلها كانت تطال طلابا وطالبات في الجامعات أو في المراحل الثانوية، أو خريجين يبحثون عن عمل، وكذلك أطباء ومهندسين وصحفيين وكتّاباً، بل الكثير منهم كانوا مسيحيين وعلويين ودروزا وإسماعليين، وبنفس الوقت، كان مع الجلادين الكثير من السنّة، ما يؤكد أن ملة النظام واحدة.
أنا مسيحي، أنا تنويري وعلماني ويساري، إذا أنا عصري وحداثي وأنتمي لحضارتكم، وهم مسلمون منغلقون ومتخلفون، من خارج سياقات هذه الحضارة وقيمها.. هذه كليشيهات حاول نظام الأسد إيصالها للخارج كي ينجو بفعلته من المذبحة الرهيبة التي ارتكبها بحق السوريين، مذابح عندما سيكشف النقاب عن أعدادها الحقيقية، والتي تتجاوز المليون قتيل، سيكتشف العالم أي قاع وصل إليه عندما سمح لهكذا مجرمين بالتفنن في صناعة الأكاذيب، وتقسيم البشر بين متطورين يجب أن يمجّدهم العالم، ومتخلفين يجب الاحتفال بالتخلص منهم.
twitter.com/ghazidahman1