فاق صدى استقالة عبد الله حمدوك مساء الأحد من منصب رئيس الوزراء الذي كان عبد الفتّاح البرهان، خليفة عمر البشير في دور دكتاتور السودان وقاهر شعبها، قد أعاد تعيينه فيه قبل ستة أسابيع، وذلك بعد أن أطاح به وفرض عليه الإقامة الجبرية عندما قرّر وضع حدّ لمسار الانتقال الديمقراطي يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فاق صدى تلك الاستقالة تبعاتها الفعلية.
ذلك أن حمدوك بقي، إثر تعيينه الثاني، رئيس وزراء بلا قرار مستقل في الأمور الأساسية مثلما هم رؤساء الوزراء في كافة أنظمة الحكم الفردي والدكتاتوريات، وهو السبب عينه الذي جعل شتى مكوّنات المعارضة الشعبية السودانية تلومه على القبول بالعودة إلى المسرح الحكومي بالرغم من تحوّله إلى مسرح دُمى.
أما عدا رفعه "ورقة التين" التي غطّى بها عورة الحكم العسكري، فإن أهم ما حقّقه حمدوك باستقالته هو تأكيد صدق نيّته الشخصية في محاولة ترميم المسار الانتقالي، وهي نيّة ساذجة تماماً حفّزها توهّم بأن الضغط الدولي سيمنحه سطوة تخوّله تحقيق مبغاه، مثلما وعده الممثّل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، فولكِر بيرتِس، الذي تطفّل على الوضع السوداني بروح مفعمة بمنطق استعماري، ناقضاً اللاءات الثلاثة التي نادى بها الحراك الشعبي إزاء الانقلاب العسكري: "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية" (أنظر "هل تليق الديمقراطية بشعوبنا؟" 21/12/2021).
والحال أن أنظمة الاستبداد العربية أثبتت بما يكفي ويفي، لاسيما منذ انفجار "الربيع العربي" قبل أحد عشر عاماً، أن دعوات "المجتمع الدولي" لا تثنيها البتة عن المضي في تسلّطها وبطشها، وأنها لا تفرّط البتة بسيادتها الاستبدادية، التي تطلق عليها تسمية "السيادة الوطنية" بينما تدوس سيادة الشعب، التجسيد الأوحد للسيادة الوطنية الحقيقية.
وتبقى القيادة العسكرية السودانية مقيّدة بضعف رصيدها الشعبي مقارنة بحجم المعارضة الشعبية.
وقد يظنّ أحد أن فضل الحركة الشعبية السودانية في مواصلة النضال والإصرار على تحقيق غايات الثورة، إنما يعود، ولو جزئياً فقط، إلى الاعتدال النسبي الذي واجهت به القيادة العسكرية حتى الآن التظاهرات الشعبية.
لا زالت الحركة الشعبية السودانية تثبت يوماً بعد يوم امتيازها والتزام قياداتها، متمثلة بلجان المقاومة وتجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير، بالإصرار على إسقاط حكم العسكر وإحلال نظام مدني
ولا يُنكر أن القمع الذي واجهته الحركة الشعبية السودانية منذ اندلاع الثورة وحتى كتابة هذه السطور (صباح الثلاثاء) على شراسته وقباحته، بقي محدوداً بقياس ما شهدته مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013، ناهيكم من فظاعة القمع الذي تعرّضت له الثورتان الليبية والسورية منذ أسابيعها وأشهرها الأولى. أما الحقيقة فهي أن القادة العسكريين السودانيين ليسوا أكثر رأفة من غيرهم من أرباب أنظمة الاستبداد في منطقتنا، بل إن الفارق الجوهري الذي يتحكم بمستويات القمع إزاء حركات شعبية تطالب بإسقاط السلطة القائمة وقد بلغت فعلياً حدّ تهديد استمرارها، إنما هو ثقة الحكام بتحكّمهم بالقوات المسلّحة.
ففي أنظمة ميراثية مثل نظام آل القذّافي الليبي ونظام آل الأسد السوري، تتحكم العائلة الحاكمة بالقوات المسلّحة، ولاسيما وحداتها الأكثر تسليحاً وتدريباً، من خلال الوشائج العائلية والقبلية والإقليمية، بل والطائفية كما في الحالة السورية، فلا تتردّد في استخدامها سعياً وراء إغراق المعارضة الشعبية بالدماء. أما في مصر فقد خشيت قيادة القوات المسلّحة من تمرّد جنودها لو حاولت زجّهم في قمع وحشي للحراك الشعبي العارم في شتاء عام 2011 دفاعاً عن رئيس بات واضحاً أنه خسر رصيده الشعبي. وبالمقابل، فلم تتردد القيادة العسكرية في الإشراف على تنفيذ مجزرة رهيبة بعيد انقلاب سنة 2013، إذ شعرت بأن الرصيد الشعبي الذي أحرزته بسهولة إزاء حكم الإخوان الأرعن قد ضَمن لها القدرة على المضي في تجديد أسس الاستبداد بمستوى أكثر بطشاً.
أما في السودان، فثمة نظير للوحدات الخاصة الليبية أو السورية تمثله "قوات الدعم السريع" المكوّنة من ميليشيا الجنجاويد القبلية المعروفة بممارساتها الإجرامية في دارفور. ولهذا السبب بالذات استخدمتها القيادة العسكرية في محاولتها إرهاب الحركة الشعبية من خلال مجزرة "فض اعتصام القيادة العامة" في الثالث من يونيو/ حزيران 2019. لكن قادة الجيش لم يتجرؤوا على المضي قُدُماً على هذه درب الدموية خشية من انتشار مظاهر التمرّد في صفوف القوات النظامية التي بدأت تتجلّى إزاء المجزرة.
وتبقى القيادة العسكرية السودانية مقيّدة بضعف رصيدها الشعبي مقارنة بحجم المعارضة الشعبية. وقد ظنّت قبل شهرين ونصف أن المزاج الشعبي قد تغيّر لصالحها، لكنها سرعان ما رأت أن ذلك كان وهماً، ليس إلّا. وهي تراهن الآن على كلل الحركة الشعبية وضغط الظروف المعيشية كي تسنح لها فرصة تصعيد قمعها وإعادة تثبيت الدكتاتورية العسكرية على غرار ما حصل في الجزائر.
أما في المقابل، فلا طريق إلى القضاء على حكم العسكر وإرساء سلطة مدنية ديمقراطية محله سوى من خلال صعود التعاطف مع الحركة الشعبية من داخل القوات المسلحة بما يُؤدّي إلى عصيان عسكري وإطاحة بالمجلس العسكري "الانتقالي" القائم.
وهذا ما أراد البرهان تداركه بتقديمه "تنويراً" لضباط القوات المسلحة من رتبة عميد فما فوق يوم الإثنين، سعياً وراء محاصرة وقع استقالة حمدوك في الليلة السابقة. وفي التحليل الأخير، فإن مصير الثورة السودانية يتوقف على قدرة المعارضة الشعبية على شق صفوف القوات المسلحة واستدرار تعاطف قسم منها وحثه على تأييد المطالب الشعبية بما يكفي من حزم وقوة لردع القسم المضاد للثورة أو هزمه.