أساء الرئيس الفرنسي إيمانويل
ماكرون في لقاء له مع شبان فرنسيين مزدوجي الجنسية، في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، إلى
الجزائر،
نافياً وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، ومسيئاً إلى النظام الحالي والشعب بشكل عام، ومنكراً حتى وجود الاستعمار بحد ذاته، إلا أن ماكرون المهووس بتركيا قال إنه مفتون أو منبهر أو مندهش من قدرة
تركيا على كتابة التاريخ بحيث تقنع الناس بعدم وصف الدولة العثمانية بالاستعمار، واقتصار هذا التعبير فقط على الاحتلال الفرنسي.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن خلاف ماكرون مع الجزائر هو سياسي- أمني بامتياز، يشمل ملفات عدة مثل مالي وليبيا وتونس، وقبل ذلك وبعده انعتاق وتحرر الجزائر من الهيمنة والتبعية الفرنسية في سياقات متعددة سياسية وأمنية واقتصادية.
ففي ملف مالي مثلاً، لا تبدو الجزائر متحمسة للتدخل الفرنسي على حدودها ومحيطها الجيوبوليتيكي المباشر؛ التدخل الذي أجّج الأوضاع ولم يهدئها بما في ذلك ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين العزّل بحجة محاربة الإرهاب، بينما تتهم
فرنسا الجزائر بتسهيل وحتى تمويل وصول مرتزقة فاغنر الروس إلى الجار الأفريقي المسلم، دون أن تقدم أدلة واضحة ملموسة وجدية على ذلك.
خلاف ماكرون مع الجزائر هو سياسي- أمني بامتياز، يشمل ملفات عدة مثل مالي وليبيا وتونس، وقبل ذلك وبعده انعتاق وتحرر الجزائر من الهيمنة والتبعية الفرنسية في سياقات متعددة سياسية وأمنية واقتصادية
الخلاف يشمل ليبيا أيضاً، حيث شجعت فرنسا الخيار العسكري عبر دعم الجنرال المتمرد خليفة حفتر بالسلاح والخبراء (كما قال المبعوث الأممي السابق غسان سلامة)، بما في ذلك إبقاء الواقع الليبي الهشّ والمنقسم والمتوتر على حاله، بينما كان موقف الجزائر ولا يزال داعماً للخيار السياسي والتوافق الداخلي على أساس قرارات الأمم المتحدة؛ من أجل إشاعة الاستقرار والسلم والأمن في الجار العربي والأفريقي.
أما تجاه المستجدات في تونس فتتبنى الجزائر لغة مختلفة تماماً عن تلك المائعة حمّالة الأوجه التي تستخدمها فرنسا، وتتحدث حتى عن التدخل الجدي إذا ما واجه البلد العربي المجاور تهديداً خارجياً باعتباره تهديداً للجزائر أيضاً.
قبل ذلك وبعده لا تبدو باريس مرتاحة لارتفاع اللهجة الشعبية والحزبية وحتى الرسمية الداعمة لتحرر وانعتاق الجزائر من دائرة النفوذ الفرنسي على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والأمنية، وبحثها عن شركاء آخرين بما فيهم تركيا التي تتطور معها العلاقات بسرعة، أيضاً على مستويات مختلفة.
إضافة إلى الخلاف السياسي، ثمة دوافع داخلية وراء إساءات ماكرون ولغته المتغطرسة المتعالية تجاه الجزائر التي يسعى من خلالها لرفع أسهمه الانتخابية، هادفاً من جهة أخرى إلى ابتزاز الجزائر لتحقيق عوائد اقتصادية، وحتى اصطفافها خلفه إقليمياً لتخفيف أزماته الخارجية المتعمقة تحديداً شمال أفريقيا وغربها.
لا تبدو باريس مرتاحة لارتفاع اللهجة الشعبية والحزبية وحتى الرسمية الداعمة لتحرر وانعتاق الجزائر من دائرة النفوذ الفرنسي على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والأمنية، وبحثها عن شركاء آخرين بما فيهم تركيا
ماكرون يسعى كذلك لتوحيد اليمين الفرنسي خلفه، بينما يمكن اعتبار التصريحات والمواقف نفسها كتعبير عن تنامي قوة اليمين المتطرف وتماهي تيارات سياسية وحزبية مركزية معه.
بالتأكيد يمكن إدراج الملف برمته ضمن تزايد العداء للإسلام (إسلاموفوبيا) الذي غذّاه ماكرون نفسه بقراراته وسياساته العنصرية ضد المسلمين في فرنسا، بينما اتهم تركيا بقيادة وتأجيج ثورة الغضب العربية الإسلامية ضده.
رغم الخلفية السياسية والأمنية والاقتصادية وحتى الانتخابية للخلاف، إلا أن ماكرون ذهب به نحو الذاكرة والتاريخ لتبرئة نفسه وبلده من الاستعمار وجرائمه دون استيعاب أو تقدير لحساسية الموضوع عند الجزائريين. دائرة الذاكرة المجتزأة والمنفصمة تضمنت رفض اعتراف الرئيس الفرنسي (وحكومات باريس المتعاقبة) بجرائم الاستعمار الموصوفة ضد الجزائريين، ولم يكتف بذلك بل هرب إلى الأمام منكراً حتى وجود الشعب أو الأمة الجزائرية، ومعتبراً ذلك مصطنعاً وقائما على ريع ذاكرة مفتعلة، حسب تعبيره الحرفي.
الرئيس الفرنسي أقحم تركيا أيضاً في إساءاته وتجاوزاته بحق الجزائر والجزائريين، وقال إنه منبهر ومفتون ومندهش من قدرة تركيا على كتابة التاريخ؛ وإقناع الجزائريين وآخرين أن ما قبل الاستعمار الفرنسي لم يكن استعماراً، في إشارة إلى الإمبراطورية العثمانية.
ماكرون منبهر ومفتون، بل في الحقيقة مهووس بتركيا التي أضعفت وحجّمت الدور الفرنسي الضارّ والسلبي والمؤذي في سوريا وليبيا وشرق المتوسط، أيضاً وحتى في القوقاز بعدما سعت باريس إلى دعم الاحتلال الأرمني والاعتراف بجمهوريتهم الانفصالية غير الشرعية في ناغورني قره باغ.
ماكرون منبهر ومفتون، بل في الحقيقة مهووس بتركيا التي أضعفت وحجّمت الدور الفرنسي الضارّ والسلبي والمؤذي في سوريا وليبيا وشرق المتوسط، أيضاً وحتى في القوقاز بعدما سعت باريس إلى دعم الاحتلال الأرمني والاعتراف بجمهوريتهم الانفصالية
في السياق الجزائري تطورت العلاقات مع تركيا بسرعة أيضاً وعلى مستويات مختلفة، حيث تعتبر الجزائر العلاقة مع أنقرة مهمة جداً للاستفادة من خبراتها وقدراتها كدولة صاعدة وناهضة، بينما ترى أنقرة العلاقة مهمة بحد ذاتها كما بوابة لحضورها في وسط وغرب أفريقيا بشكل عام، علماً أنها انتقلت إلى ما تشبه الشراكة بين البلدين، حيث لم يعد التبادل التجاري مقتصراً على استيراد الغاز وقطاع الطاقة، وإنما يطال جوانب اقتصادية حيوية ومهمة أخرى، بعدما أقامت تركيا أكبر مصنع للنسيج في القارة السمراء مع فتح الأبواب الواسعة أمام الاستثمارات الجزائرية فيها.
ولا يقل عن ذلك أهمية غيظ ماكرون من القناعة الجزائرية بأن الدولة العثمانية لم تكن استعماراً المتجذرة في العقل الجمعي العربي والإسلامي، كونها كانت آخر تعبير عن المزاج الحضاري الموحد للأمة، حيث أدّبت الغرب لقرون ومنعته من استعمار بلادنا بما فيها درتنا القدس، بينما مثّل إضعاف وتقسيم الدولة العثمانية الخطوة الأولى باتجاه الاستعمار الغربي الفرنسي البريطاني (وفق معاهدة سايكس بيكو) وتأسيس الدولة اليهودية في فلسطين؛ التي كانت فكرة فرنسية أساساً ودائماً لتحقيق نفس الأهداف المتمثلة بإضعاف العالم العربي الإسلامي وخلق ثكنة أو قاعدة استعمارية غربية في القلب منه.
تركيا ردت طبعاً على تصريحات الرئيس الفرنسي بلغة سياسية ودبلوماسية لكن حازمة، عبر وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو الذي أكد خلو تاريخ البلاد من الاستعمار، معتبراً ما فعله ماكرون غير مجد، وطالبه بعرض آرائه بشكل مباشر وصريح عبر القنوات المفتوحة بين الجانبين، كما يفعل الرئيس رجب طيب أردوغان، مع الإشارة إلى أن الأساليب والأهداف الانتخابية يجب أن تبتعد عن لغة التحريض وتأجيج الكراهية.
ردّ مفصل ومفحم وموثّق جاء من رئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، عبد الرزاق قسوم، الذي كتب في مقال مطوّل بعنوان "فرنسا هي منبع شقائنا" أن الدولة العثمانية لم تكن استعماراً بأي حال من الأحوال، حيث جاءت أصلاً بناء على طلب الجزائريين لحمايتهم من الجرائم الصليبية، ولم تمسخ الهوية ولم تقتل الناس أو تحاربهم في أرزاقهم، وتدمّر مدنهم وحواضرهم وأماكن عبادتهم، ولم تفرض عليهم حتى المذهب الحنفي الخاص بها.
جاءت تصريحاته ومواقفه معبرة عن الواقع الحالي في أبعاده الثلاث الفرنسي- الجزائري والفرنسي- التركي، والجزائري- التركي، حيث التردي المهيمن على العلاقات الفرنسية والجزائرية وانعدام الفائدة من نبش التاريخ دون الاعتراف بالحقائق ومجازر الاستعمار الفرنسي بحق الجزائريين
ردّ جزائري عملي آخر جاء بتمتين الشراكة الاقتصادية وتقويتها عبر تدشين مشروع استثماري عملاق في تركيا ترعاه شركة سوناطراك الوطنية للنفط ويختص بإنتاج مواد بيتروكيماوية بتكلفة مليارات الدولارات.
عموماً وفي كل الأحوال، يمثل المشهد برمته تعبيراً عن انهيار أو نهاية الهيمنة الغربية على العالم بما فيها الفرنسية، والتي استمرت لقرون وشملت حقبة التجارب الاستعمارية، وكان آخر فصولها هيمنة القطب الأحادي الأمريكي في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي منذ ثلاثة عقود تقريباً.
ومن جهة أخرى، ومن حيث لم يرد ماكرون جاءت تصريحاته ومواقفه معبرة عن الواقع الحالي في أبعاده الثلاث الفرنسي- الجزائري والفرنسي- التركي، والجزائري- التركي، حيث التردي المهيمن على العلاقات الفرنسية والجزائرية وانعدام الفائدة من نبش التاريخ دون الاعتراف بالحقائق ومجازر الاستعمار الفرنسي بحق الجزائريين. أما الحسد والغيرة تجاه تركيا فلا تجدي أيضاً ولا تمنع نهوضها وصعودها وتقوية علاقاتها مع المحيط العربي الإسلامي بما في ذلك الجزائر، بناء على التاريخ المشترك والذاكرة الجامعة والمصالح الراسخة.