في بلاد الاغتراب نكتشفُ ذواتِنا أكثر، ونُعايِنُ أنفسنا ونتعرّف إليها بِجلاءٍ أكبر، ونرانا بأَعينِنا الجديدة وأَعْيُن المجتمع الجديد أيضا.
أريدُ زوجي لي وحدي؛ فكيف أدخل في الإسلام؟!
هذا ما قالته لي إحدى الفتيات الرُّوسيّات اللَّواتي جمعتني بهنّ دروسُ تعلّم اللّغة التركيّة، فأجبتُها على الفور: "وأنا أريد زوجي لي وحدي أيضا!".
نظرَت إليّ نظرة أَبْدَتْ تَعجُّبَها وأفصَحتْ فيها عن استغرابها؛ إذ كانت تتوقّع - كما بَدا لي - أنّه سيسقطُ في يدي وسأحيرُ جوابا، وسأَسْتَميتُ في الدّفاع عن حقّ الرّجال في الزواج بِمَن شاؤوا من النِّساء كيفما شاؤوا ومتى شاؤوا ذلك!
لكنّها حين سمعت قولي انفرجت أساريرُها ولانت عرائكها وهدأ استنفارُها، وبدأت تُبدي أفكارها وتصوّراتها عن الإسلام.
أخذَتْ تسرد لي حكايات أشبه ما تكون بحكايات ألف ليلة وليلة وحكايات السلاطين والجواري، التي ما فتئ الإعلامُ يحشو أذهان الناس بها، حتى باتت أقرب إلى كونها حقائق لا مراء ولا جدال فيها.
أدركْتُ عندها حجمَ تشوّه صورتنا الجَمعيّةِ في عقولِهم وأفكارهم! ولعلَّ أوّلَ خطوة تسبق بناء جسورِ تواصل حقيقيّة بيننا وبينهم، هي حَتْمِيَّةُ إزالة هذا الرّكام الهائل من التشوّه الذي بُنِيَ في عقولِهم ونفوسهم تجاهنا بالآليّات نفسها التي استُعمِلتْ في صناعة هذا التشوّه؛ وذلك بالبرامج النوعيّة والفنّ المنصف الراقي، وقبلَ ذلك كلّه بِحضور وشُهود حضاريّ يؤهّلنا لنكونَ شهُداءَ على النّاس.
اللُّغة "التُّركليزيّة" ومَطبّات التّواصل
الإدراك الأعظم الذي رسخ في قلبي وعقلي وأنا أحاورُها لم يكن قضيّة
الحوار، بقدر ما كان يقيني أنَّنا نحن المسلمين مكلّفون بإتقان اللغاتِ العالمية إتقانا يكفينا للتعبير عن أنفسنا وعقيدتنا وأفكارنا؛ إتقانا يجعل من اللغة أداة حقيقيّة يُعمَل بها في أرض الواقع ومجالات الحياة، لا سيّما أنّ درجات الإنكليزية العالية التي كنت أحصّلها في سنوات الدراسة، لا تكفي لخوض نقاش عَقَدي أو فقهيّ عميق!
وبلغة "تُركليزية" جرى الحوار بيننا، فكان البحثُ والتحرّي في زوايا الذاكرة القريبة والبعيدة عن مفردات مفهومة لدى كلّ منَّا، يأخذ من الجهد والوقت ما يؤثّر على صميميّة الفكرة، لكنّه كان - في الوقت نفسه - طريفا وسبيلا ماتعاً إلى حميميّة الحوار!
وجالت بي الذّاكرة وأنا أحاورُها فأعادتني إلى مشهدِ أمّ زيد بن ثابت في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلّم، عندما جاءت به طفلا صغيرا ليخرجَ مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم يومَ أُحد؛ فرفض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك ووجّه طاقته الفذّة التي تحدّثت عنها أمُّه إلى تعلّم اللغات؛ فأمره صلى الله عليه وسلّم أن يتعلّمَ اللُّغاتِ المختلفةَ التي كانت منتشرة في ذلك الزمن. وقلتُ في نفسي وأنا أقتطفُ كلمة من التركيّة وأخرى من الإنكليزيّة في حواري معها: ما أَحْوَجَنا اليوم إلى جيوش شبابيّة من أمثال زيد بن ثابت تتقن اللُّغات الحيّة لشعوب الأرض وتتسلّح بالوعي في مخاطبتها وتعريفها بنا، وإزالة أكوام التشوّه التي وُضعت فوق صورتنا الجَمعيّةِ سواء بوصفنا مسلمين أو عربا.
كيفَ يُصَنِّفوننا؟
لفتني فيما كان بيننا من حوار أمورٌ عدّة؛ لعلّ أهمها هو حديثها عن أنَّ الحجابَ هُوية دفعتها لتصنيفي تصنيفا مبدئيا (وأغلب الظّنِّ أنَّه كان تصنيفا سلبيّا للأسف!)، ولم تغفل عن شكل الحجاب ولونه؛ فللحجاب الأسودِ لديها معاني مختلفة، كان من الممكن أن تمنعها من مخاطبتي أصلا!
وقالت لي؛ إنَّ حديثي معهن في الدَّرسِ وابتساماتي ممَّا أثار فضولها، إذ كانت تتوقّع منّي الانزواء والانطواء والتجهّم، لكنّني كسرتُ أُفقَ توقّعاتها فلم أنفر منهنّ وَفقا لاختلاف الدّيانة واللباس! ثم حدّثتني عن بعض الأفكار التي تحملها عن المحجبات؛ إذ ترى أنّهنّ بعيداتٌ - عامّة - عن ميادين العلم والدراسة كونَها ميادين تضم رجالا ونساء معا، وهذا ممّا لا تقبلهُ المحجّباتُ - كما تظنّ - ولا يقبلُه رجالهنّ!
إنّ مُعْضِلَةَ التّصنيفِ المُسْبَقِ للآخرين تستدعي التّوقّف عندها مَلِيّا، فكم وقعنا فيها نحن حِيال أشخاصٍ أو عائلات أو حتّى مجتمعات بأَسْرِها بناء على ما شكّلناه في عقولِنا من أفكارٍ عنهم، وبناء على ما وَصَلَ إلينا عنهم من غيرهم، فَسَمِعْنا عنهم ولم نسمع منهم، وعَرّفنا الآخرون عَليهم ولم نُكلّف أنفسَنا عَناءَ أن نَعْرِفَهم. ومن طبيعةِ البَشَر أنَّنا لا نشعر بِفَداحة الأمر ونحن نرتكبه بحقّ الآخرين، إلّا حين نُعايِنُ تعامُلَهم معنا بالمَنْطِقِ ذاته وبالتَّصنيفِ المُسْبَقِ نفسه، فنشعر حينها بالغُبْنِ والظُّلْمِ والأَسَى.
قَضِيّةٌ عادِلَةٌ ومُحامُونَ فاشِلُون
سألتُ الفتاةَ الرُّوسيَّةَ نفسَها في سياقِ ودِّيّ لا جدّيّة فيه: "لو كان الإسلامُ لا يسمح للرّجل بالزّواج من امرأة ثانية؛ فهل كنتِ ستفكرين بالتعرف إليه أكثر؟".
قالت: "ربما.. فهذه الفكرة لا يمكنني قبولها! وأتعجَّبُ من تقبُّلِ النِّساءِ المسلِماتِ لها!".
سألتها إن كانت قد سمعت من امرأة مسلمةٍ أنها تتقبّلها! فكان جوابها أنها لم تجر حوارا من قبل مع امرأة مسلمة عن هذا الموضوع، لكنّها تعرف أنَّنا العرب والمسلمين نتقبّل هذه الفكرة ونطبّقها!
قلت لها يومها: "أنا لا أُخاطِبُكِ بِوَصْفي ضَلِيعة في قَضايا الدِّين، لكنَّ الراسخ في قلبي وعقلي في هذا الأمر شيئان؛ الأول أن السَّوادَ الأعظمَ من النِّساءِ لا يتقبَّلْنَ الشّريكةَ في الزَّوج، والثاني أنَّ الله عزَّ وجلَّ حين أباحَ التّعددَ للتَّحصينِ أخبرنا بجلاء أنَّه يأمرُ بالعدلِ، وأنَّ البشرَ قاصِرون عن تحقيقِه!
كانت السّائلةُ على ديانة أُخرى ورأت في ذلك انتقاصا من كرامتها الإنسانية وصرّحت بذلك، لكن الأهم: ألم تخطر مثلُ هذه الأسئلةِ على عقولِ كثيرات من نسائنا المسلمات؟
ألا تُزَعْزِعُ الرَّاسخَ في نُفوسِهنّ إنْ لم تكن أقدامُهنّ منتصبة على أرض ثابتة؟
أليس من حقِّهنَّ أن يسألْنَ ويُجبْنَ بعيدا عن أَمْرِهِنّ بالتَّسليم بما يَشعرْنَ أنّه لا يتَّفقُ مع فطرتهنّ؟
من المؤسف أنَّ كثيرا ممَّن يكتبون عن هذه القضايا من أهل العلم وأهل الكلام وأهل التَّفلسفِ، يُسخِّفون مثلَ هذه النِّقاشاتِ ويَرَونَ أنَّ على المرأةِ أنْ تتقبّلَ وتُسلِّم، بل يدّعون أنّ ذلك من فِطرتِها التي فُطرت عليها! وهي في الحقيقةِ لا تتقبّل شراكة في صداقاتِها العميقةِ حتَّى تتقبّل شريكة فيمَن تختارُه وَليفا وأنيسَ عُمر وحياة!
ولستُ هنا في معرض مناقشة هذه القضيّة من حيثُ الحكم الشرعيّ، بل ما أريدُ تسليطَ الضّوء عليه هو آليّةُ التّعاطي مع هذه المسألة وشبيهاتِها، فنحن بحاجةٍ إلى التّعاطي الذي يخاطبُ في
المرأة نفسَها وعقلَها بِدون تسخيف ولا تسطيح، سواءٌ في ذلك المرأة المسلمة وغير المسلمة، لا سيّما أنَّ القصورَ في مُقارَبَةِ هذه المسائل واضحٌ بَيِّنٌ.
إنّ الإسلام دينٌ عظيم، ويحتاج إلى أشخاص كِبارٍ يُحسنونُ عرضَه لتترسّخ عظمتُه في نفوس أبنائه وغير أبنائه على حدٍّ سواء. وتحضرني وأنا أختم كلماتي هذه عبارةُ المفكّرِ الإسلاميِّ محمّد الغزالي الذي يقول: "الإسلام قضيّةٌ عادلةٌ محاموها فاشلون".