قضايا وآراء

ويبقى العدل والأمن والسلم رهن اتفاق أقوياء لن يتفقوا

1300x600

خلال الشهرين اللذين مضيا على قيام المجلس العسكري البورمي بقيادة الجنرال "مين أونغ هلاينغ" بالانقلاب على الحكومة في 1 شباط (فبراير) الماضي، واعتقاله لـ "أون سان سو تشي" والرئيس "وين مينت" وغيرهما من المسؤولين، وتسلمه السلطة وإعلانه حالة الطوارئ في البلاد لمدة عام، وتوجيه الجيش والشرطة لمواجهته بعنف للمتظاهرين ضد الانقلاب.. خلال هذه المدة لم تتوقف حركة دول وهيئات دولية ومظاهرات جماهيرية عن المطالبة بوقف العنف وردع الانقلابيين وإطلاق سراح "سو تشي" والرئيس "مينت" وغيرهما من المسؤولين البورميين المعتقلين، وبإعادة "سو تشي" إلى منصبها..

وفي يوم الأربعاء ٣١ آذار (مارس) الماضي عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعاً بدعوة من بريطانيا لاتخاذ قرار بشأن ما يجري في ميانمار/ بورما. وأمام مجلس الأمن الدولي الموقر أكدت "كريستين شرانر برغنر" مبعوث الأمم المتحدة إلى ميانمار "أن مَن تمَّ إلقاء القبض عليهم منذ الانقلاب في ميانمار حوالي 2559، وأن عدد القتلى على يد قوات الجيش والشرطة بلغ 521.. وحذرت من أن ميانمار قد تنزلق إلى دولة فاشلة، وأن الروهينغا سيعانون أكثر من غيرهم.. كما حذرت من حدوث كارثة متعددة الأبعاد في قلب آسيا".. 

وفي الاجتماع ذاته قالت "ليندا توماس غرينفيلد" المندوب الأمريكي في مجلس الأمن "إنه يتعين على المجلس مضاعفة جهوده بشأن ميانمار، وأن الجيش هناك يرتكب أعمال عنف مروعة".

لم يصدر عن مجلس الأمن أي قرار، ولم يتوصل إلى مشروع بيان يتضمن توجيه "رسالة حازمة وموحدة" إلى قادة الانقلاب العسكري الذي أطاح بالسلطة في ميانمار، لأن المندوب الصيني عَطَّل ذلك بذريعة أن "الضغط وفرض العقوبات لن يؤديا إلا إلى تفاقم التوتر والمواجهة وزيادة التعقيد..".. وبعد الجلسة قالت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية: "لقد أوجدنا طريقة مشتركة" تقصد مع الصين لكن الغموض بقي يلف ذلك.

كان هذا تحركاً سياسياً ودبلوماسياً مفهوماً ومقبولاً، ويقع في نطاق الواجب الدولي والإنساني لمنع الجيش من ممارسة العنف والقتل وتعطيل الحياة الديمقراطية، ومن القيام بأعمال وحشية ضد أبناء الشعب أو فئات منهم، وترك السلطة للمدنيين.. لكن الذي لا يمكن فهمه ولا قَبوله من مواقف دول وهيئات دولية هو السكوت الذي يرقى إلى درجة التواطؤ على ما تعرَّضت وتتعرض له الأقلية المسلمة في بورما من اضطهاد طويل الأمد.. وهي، وفقا للأمم المتحدة، وباعتراف مسؤوليها "أشد الأقليات تعرضاً للإضطهاد في العالم.".؟! 

ويجري هذا التغاضي ـ التواطؤ ـ عن قيام الجيش البورمي بقيادة المجلس العسكري ذاته، وقائد الجيش الجنرال "مين أونغ هلاينغ" ذاته، وبأمر من "سان سو تشي" والرئيس "مينت" وغيرهم من المسؤولين البورميين.. بـ "جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، ومذابح مُروعة، وفظائع وحشية، وممارسات عنصرية جرت وتجري ضد تلك الأقلية في ولاية " أراكان" وفي غيرها من مناطق بورما منذ عام ٢٠١٢.. حيث تُحرَق قرى الروهنغيا، ويقتلون بوحشية، ويزجون بكثافة عالية في قوارب تُقطر وتُترك في عرض البحر لتغرق بمن فيها، ويقع التنكيل بهم وتشريدهم وتركهم قيد الإبادة الجماعية في العراء وفي مخيمات في ظروف هي الأقسى من بين ما يعامل بها بشر، وذلك لاقتلاعهم من وطنهم وتجريدهم من جنسيتهم وهم مواطنون في بلادهم ميانمار منذ مئات السنين..

 

في أحداث ١٩٩١ ـ ١٩٩٢ تشرد مئتان وخمسون ألفاً نتيجة الاضطهاد والقتل والاغتصاب، وفي عام ٢٠٠٩ فر من هول وحشية الجيش البورمي عشرات الآلاف إلى تايلاند ويقيم على حدودها مئة وأحد عشر ألفاً في مخيمات يعيشون فيها حياة أكثر من مزرية.. ونتيجة الأحداث الأخيرة طُرد أكثر من خمسمئة ألف إلى بنغلادش،

 



وتتكرر هذه الممارسات الوحشية التي يرتكبها الجيش البورمي ضد الروهنغيا بعلم الساسة وبموافقتهم وتتجدد في مراحل زمنية من دون رادع.. ويبقى هؤلاء البؤساء قيد الاضطهاد وتحت خطر الإبادة طوال سنوات وسنوات من دون اهتمام يذكر بينما يستدعي وضعهم الإنقاذ والسرعة في الحماية من إرهاب مجرمين عنصريين يرتكبون جرائم لا يحاسبون عليها، وهم لا يفلتون من العقاب فقط بل يكافأون على جرائمهم بارتفاع أسهمهم لدى دول وساسة وهيئات في عالمنا المنكوب بازدواجية المعايير التي تشمل الشأن الإنساني الخالص وتميت ضمائر حية.؟!
 
لقد أصبح من الجلي الواضح أن الجيش والساسة والمتطرفيين الدينيين والعنصريين في بورما / ميانمار يضعون الروهنغيا المسلمين على رأس أهدافهم في التصفية المدمرة، سواء أكان ذلك عند حدوث الانقلابات أو في زمن الحكومات المدنية وحكام يحملون جائزة نوبل للسلام؟!.. وليست خارج الذاكرة الروهنغية، ولا ينبغي أن تكون خارج الذاكرة العالمية، العمليات العسكرية الوحشية التي قام بها قائد انقلاب عام 1962 الجنرال "ني وين" ضد هذه الأقلية على مدى عقدين، وأشد تلك العمليات تلك المسماة "عملية الملك التنين" التي وقعت سنة 1978، وكان من نتائجها، عدا المذابح الفظيعة، تشريد أكثر من مئتي ألف منهم في بنغلاديش وغيرها. 

وفي أحداث ١٩٩١ـ ١٩٩٢ تشرد مئتان وخمسون ألفاً نتيجة الاضطهاد والقتل والاغتصاب، وفي عام ٢٠٠٩ فر من هول وحشية الجيش البورمي عشرات الآلاف إلى تايلاند ويقيم على حدودها مئة وأحد عشر ألفاً في مخيمات يعيشون فيها حياة أكثر من مزرية.. ونتيجة الأحداث الأخيرة طُرد أكثر من خمسمئة ألف إلى بنغلادش، ورحَّلت بنغلادش بعضهم إلى جزيرة غير آمنة ومنعت بعضهم من الدخول إلى أراضيها لاكتظاظ البلاد بالمقتلعين من وطنهم بورما فأقاموا في المتاهات.

ويرتبط ما يحصل لهذه الأقلية المُسْلمة من اضطهاد وترويع ومذابح واقتلاع من الجذور، بما حدث ويحدث لأقليات كثيرة منها أقليات مسلمة على الخصوص، ولشعب فلسطين ولشعوب أخرى في بلدان ودول عربية وإسلامية تستمر فيها الحروب والمذابح والكوارث لسنوات وسنوات، ويستثمر فيها تجارُ السلاح والحروب والسياسة والمبادئ والسُّلَع ممن يستثمرون في الإرهاب الأكبر والأصغر ويمارسونهما: "إرهاب الأباطرة وإرهاب اللصوص، الإرهاب بالجملة والإرهاب بالمُفرَّق"، ويتنافسون على السيطرة والنفوذ والهيمنة، ويخوضون في الدم البشري بلا فزَع ولا ورَع، ويتربَّعون بأبَّهة وابتهاج فوق الدمار وبؤس الإنسان الذي يسببونه للبشر.. 

وفي الذهن من ذلك ما لا يُحصى من حوادث ووقائع وفظائع جرت لبلدان في كل القارات من أرض البشر، وفي الذاكرة بعض ما وعته في الروع من نتائج تلك الممارسات التي تعرضت لها أقليات مسلمة خاصة من " سربرنتسا إلى راكان، مروراً بالشيشان وكشمير وشينجيانغ"، وما تعرضت وتتعرض له بلدان عربية وإسلامية من حروب ونهب واستهداف شرير واستثمار في الإرهاب وتنازع بين القُوى الدولية والإقليمية على الاحتلال والاستعمار والاستغلال، ابتداءً من فلسطين الجرح الغائر في الجسد العربي والزمن الدولي، إلى " العراق وسورية وليبيا فاليمن الذي ما بقي فيه إنسان سعيد.." ومِن.. إلى.. ومِن.. إلى.. 

إن من المؤسف أن تستمر العنصرية ويستمر الاضطهاد والاستبداد والظلم والقهر، وأن تستمر الحروب ويستمر التواطؤ والسكوت على ما يحدث وما يُرتَكب من جرائم بحق المدنيين في دول ودول، وعلى مَن يرتكب تلك الجرائم.. وأن يحصد الموت أرواحاً بريئة ويبقى القتلة فوق المحاسبة وفوق القانون، وأن يعاني مئات الملايين من البشر من جراء الحرب والقتل والترويع والتشريد والبؤس بأنواعه وأثقاله.. وأن يتكرر ذلك على سمع من العالم وتحت بصره وفي ظِلال مؤسساته وهيآته الدولية.. وأن يبقى كل ذلك البؤس البشري بلا مواجهة عادلة وحازمة وحاسمة، ومن دون محاسبة مسببيه وفاعليه من المستبدين والعنصريين والمجرمين والقَتَلَة الكبار، ومن المستثمرين في إزهاق أرواح الناس وسفك دمائهم.. وأن تُرتَهَن شعوب ودول وأجيال لطموحات أقوياء ونزاعاتهم وصراعاتهم وتحالفاتهم وقوتهم المتوحشة، وانعدام شعورهم بالمسؤولية السياسية والأخلاقية والإنسانية تجاه بني البشر وينحصر اهتمامهم بمصالحهم وعنجهيتهم.. وأن تبقى أقليات وشعوب وهيآت دولية وإنسانية في العالم قيد انتظار وفاق أولئك الذين لن يأتي اتفاقهم ولا توافقهم واتفاقياتهم إلا على حساب الأقليات والشعوب والدول الفقيرة والضعيفة والتابعة، وعلى تدمير الآخرين وبؤسهم وإشقائهم، وأن يبقى العدل والأمن والسلم رهن اتفاق أقوياء تملكهم أطماعهم وأنانيتهم وقوتهم المتوحشة ولن يتفقوا.. 

والله سبحانه هو المُستعان على كل حال وفي كل أوان.