نشاهد على الهواء مباشرة "حركات" انشقاق جديدة داخل حركة
فتح، واحدة يقودها ناصر القدوة ابن شقيقة الرئيس الراحل ياسر عرفات، وأخرى يفكر فيها مروان البرغوثي من محبسه، و"ما خفي أعظم" كما يقول الزميل الإعلامي تامر المسحال في برنامجه، وحقوق الطبع بطبيعة الحال محفوظة له.
فقد حدث أول انقسام كبير في حركة فتح عام1983، لكن ذلك الانشقاق والذي كان مدعوما من قبل سوريا وأطراف أخرى، رغم حجمه وشخوص من قاده من عسكريين من الصف الثاني في الحركة، لم ينجح في سحب البساط من تحت أقدام زعيمها القوي أبو عمار، فقد كان الراحل ياسر عرفات يملك كل خيوط اللعبة، إضافة لشخصيته الكاريزمية، وتعقيدات علاقاته مع النظام الرسمي العربي والدولي، كان خصما يصعب الإطاحة به، حتى عندما ضعف قبيل استشهاده، اختار الرجل شكل النهاية التي يريدها، فيما فتح اليوم تواجه هذه الانشقاقات وسط قيادة ضعيفة لا يمتلك فيها الرئيس
محمود عباس الكاريزما "العرفاتية". كما أن الرجل يواجه خصومه وفي سيرته السياسية "صفر كبير"، إذ ثبت فشل برنامجه السياسي القائم على المفاوضات والذي ما فتئ يقول للفلسطينيين إنه الطريق الوحيد للدولة والاستقلال، فيما تؤكد كل المعطيات السياسية على أن إسرائيل لم تمنحه شيئا، ولم يعد الرجل بعد 16 ونيف عاما من قيادة السلطة والمنظمة والحركة إلا "بخفي حنين".
كان هناك حتى تاريخ الإعلان عن
الانتخابات فتحان: فتح محمود عباس، وفتح محمد دحلان. ورغم أن الأخير مفصول رسميا منذ 2011 من الحركة إلا أنه تمكن من تجنيد عديد من الكوادر، وكذلك اجتذاب عدد آخر من قيادات الحركة بشكل سري، خاصة عقب انتقاله رسميا للعيش في أبو ظبي وتلقي الدعم المالي والسياسي من قبلها. واصل دحلان خططه في تصفية حساباته مع محمود عباس، إلا أن هزيمته في غزة وخسارته الشرعية بفصلة من الحركة كانت دوما نقاط ضعف وأوراقا ترفع في وجهه، إضافة لقدرة عباس على كسب أبرز قيادات فتح. كل تلك كانت معطيات أخرت من الانشقاقات، لكن واضح اليوم أنها لم تمنعها.
الحقيقة أننا اليوم أمام "فتوحات": عباس، دحلان، القدوة، البرغوثي.. وربما عقب كتابة هذا المقال يعلن قيادي آخر تيارا فتحاويا جديدا، ليؤشر ذلك على عمق الأزمة داخل الحركة والتي برأيي تعود لجملة أسباب:
الحقيقة أننا اليوم أمام "فتوحات": عباس، دحلان، القدوة، البرغوثي.. وربما عقب كتابة هذا المقال يعلن قيادي آخر تيارا فتحاويا جديدا، ليؤشر ذلك على عمق الأزمة داخل الحركة
أولا: سياسة الإقصاء والتفرد بالسلطة التي ينتهجها أبو مازن.
ثانيا: السمة الشخصية لعباس في الخصومة، حيث يُعرف عن الرجل شخصنته للأمور ورغبته في إلغاء خصومه، على غير ما كان ينتهجه ياسر عرفات والذي كان يستعمل العصا والجزرة، وكان "يطعم الجميع" ليشتري ولاءاتهم.
أما ثالثا، فقد اتضح أن ما كان يقوله أبو مازن من أن تشدد عرفات هو سبب تعثر الوصول لتسوية قد ثبت عدم صحته، على العكس، فإن تساهل عباس لم يغير شيئا بل قزّم من القضية
الفلسطينية، وجعل إسرائيل وأمريكا لأول مرة يقفزان عنها لإقامة علاقات مع العواصم العربية متجاهلين "ممثلهما الشرعي والوحيد".
ورابعا، أن فتح تاريخيا تنظيم لا يتبنى عقيدة محددة، وإنما هو تنظيم متعدد الفضاءات الفكرية والأيديولوجيات، ولم يكن يجمع منتسبيه ومناصريه سوى أمرين: مشروع الكفاح المسلح وإيمان الكل الفلسطيني به وإعجابهم بفتح التي أطلقت الرصاصة الأولى فيه، وهذا الأمر لم يعد قائما الآن، والأمر الثاني الكاريزما الشخصية للراحل أبو عمار، فلقد كان الفلسطينيون يختلفون معه ولكن بشكل أو بآخر لا يختلفون عليه، وهو الأمر المقلوب في الحالة العباسية، فالكل يختلف عليه ومعه.
لا نهضة فلسطينية بتقديري دون فتح، لأنها تمثل نصف الشعب الفلسطيني، ويسجل لها رغم كل الانتقادات على مسارها خاصة عقب تحولها لحزب سلطة، أنها أسهمت في تشكيل هوية فلسطينية مستقلة، ولا مشروع وطنيا فلسطينيا دون أن تعيد فتح تشكيل نفسها وتوحيد صفوفها، وإنهاء الاقتتال على سلطة وهمية هي أكبر عدو للحركة نفسها.
تلك السلطة ورثت من الأنظمة العربية أسوأ ما فيها من القمع والسجون والفساد، فهناك اليوم انفلات أمني في الضفة، وفوضى سلاح، و"زعران" ليس لهم علاقة بفتح ولا كفاحها، ولا رصاصتها الأولى
تلك السلطة حولت بعض المناضلين السابقين لضباط أمن يسهرون على أمن وأمان الاحتلال الإسرائيلي.. تلك السلطة فرَّغت الكفاح من مضمونه وحولت المناضلين إلى مصطفين على مراكز التنسيق الأمني للحصول على تصريح من الجنرال كميل أبو ركن.. تلك السلطة ورثت من الأنظمة العربية أسوأ ما فيها من القمع والسجون والفساد، فهناك اليوم انفلات أمني في الضفة، وفوضى سلاح، و"زعران" ليس لهم علاقة بفتح ولا كفاحها، ولا رصاصتها الأولى.
تحتاج فتح إلى فتوحات، لكن فتوحات في المراجعة والإصلاح والتغيير والنهوض بها من جديد، وليس انقسامات وصراعات.. تحتاج للعودة لما قبل أوسلو، تحتاج توبة صادقة عن هذا المسار، والتوبة الصادقة تجب ما قبلها.