قضايا وآراء

لماذا رفعت إيران تخصب اليورانيوم إلى 20%؟

1300x600

في أجواء تنذر بتصاعد احتمالات وقوع حرب بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وسط تحشيد أمريكي لافت واستعدادات عسكرية إيرانية متقابلة، أقدمت طهران على خطوة نووية مهمة هذه الأيام، لها دلالات كبيرة في توقيتها وعمقها، بعد الإعلان عن بدء تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء تصل إلى 20 في المائة، وتخفيض زمن إنتاج اليورانيوم المخصب بهذه النسبة من 24 ساعة إلى 12 ساعة، بعد تطوير قدراتها النووية، ما يعني أنها في اليوم الواحد ستنتج دفعتين، تصل الكمية نهاية كل شهر إلى 9 كيلوات. 

والخطوة، هي الأولى التي تنفذ ضمن مجموعة خطوات نووية، أقرها البرلمان الإيراني في قانون "المبادرة الاستراتيجية لإلغاء العقوبات الأمريكية" بعيد اغتيال العالم النووي البارز محسن فخري زادة بالقرب من العاصمة طهران يوم 27 نومبر/تشرين الثاني الماضي. تليها خطوة أخرى، تكتسب هي أيضا أهمية كبيرة، تطال الرقابة الأممية على البرنامج النووي الإيراني، حيث ألزم البرلمان الحكومة الإيرانية أيضا بإنهاء تنفيذ البروتوكل الإضافي خلال شهرين، يحين موعده نهاية الشهر الجاري، اذا لم تقم أطراف الاتفاق النووي بتنفيذ تعهداتها لتمكين طهران من جني ثمار الاتفاق اقتصاديا من خلال رفض الالتزام بالعقوبات الأمريكية الشاملة والتاريخية. والبروتوكول الذي قبلت به إيران "طوعا" في إطار الاتفاق النووي وتحول إلى تعهد يفرض رقابة صارمة على البرنامج.

إلا أن صانع القرار الإيراني، له رأي آخر، وهو ما عكسه القانون الذي أقره البرلمان، ودافع عنه المرشد الإيراني الأعلى أمس الجمعة من خلال الإشادة برفع نسبة التخصيب، مما يعني أن القانون هو قرار النظام ككل وليس إجراءا برلمانيا أحاديا.
 
أما الهدف الإيراني الأساسي وراء اتخاذ هذه الخطوة التصعيدية، فهو ممارسة أقصى درجات الضغط الولايات المتحدة وأوروبا لرفع العقوبات، وهو ما يتضح من العنوان الذي اختير للقانون. وهنا يبدو أن هناك قناعة إيرانية بأن خطواتها الخمسة السابقة التي قلصت بموجبها تعهداتها النووية، ردا على تبعات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق والتقاعس الأوروبي، لم تكن نافعة، ولم تحقق المطلوب، لكونها من وجهة نظرها لم تكن بمستوى عال من الضغط، رغم عناوينها الضخمة، مثل كسر قيود تخصيب اليورانيوم وإنتاجه وغيرهما.

لكن هنا قد يسأل القاريء عن سرّ عدم انتظار طهران لجلوس الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن "المؤيد" للاتفاق النووي على المكتب البيضاوي بعد خسارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السباق الرئاسي، العدو اللدود للاتفاق، لجس نبض سياسات الإدارة الأمريكية المقبلة قبل الإقدام على هذه الخطوة. 

علما بأن هذا السؤال مطروح في إيران أيضا، وهو يكشف عن خلافات بين النخبة السياسية بشأن توقيت اتخاذ هذه الخطوة، حيث لا إجماع بين النخبة الإيرانية على هذه الخطوات، فمن جهة يرى نخب وتيارات إصلاحية، أن اتخاذ هذه الخطوات على أعتاب مجيء الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن ترتد سلبا على إيران نفسها، ولا يؤدي إلى تحقيق الغرض المطلوب، أي إلغاء العقوبات، وهو رأي الحكومة الإيرانية أيضا، التي عارضت المشروع ووجه الرئيس حسن روحاني انتقادات له، لكنها عمليا أمام قانون ملزم يجب تنفيذه، وهي بدأت بتنفيذها من الأسبوع الماضي بعد رفع نسبة التخصيب إلى مستوى كبير، وتجاوز الحد المسموح به وفق الاتفاق النووي أكثر من 5 أضعاف، حيث النسبة المسموح بها هي 3.67 في المائة.

 

تظهر طهران أمام الولايات المتحدة وأوروبا أنها ذاهبة باتجاه الانسحاب من الاتفاق النووي من دون الإعلان عن ذلك، عبر التخلي عن جميع تعهداتها وكذلك إعادة برنامجها النووي إلى ما قبل التوصل إلى الاتفاق عام 2015، وحتى الذهاب به إلى أبعد من المستوى الذي وصل إليها خلال تلك الفترة، من خلال التلويح باحتمال قيامها بتخصيب اليورانيوم إلى مستويات أكثر من 20 في المائة،

 



وفي الإجابة على السؤال يمكن القول إنه بعيدا عن هذه السجالات الداخلية، يبدو أن صناع القرار الإيراني يستشفون على ضوء جملة تصريحات لبايدن نفسه وأعضاء فريقه، أن فوز المرشح الديمقراطي لن يؤدي تلقائيا إلى تغيير المسار الذي اتبعه ترامب خلال السنوات الأربع الأخيرة، سواء لجهة صعوبة تجاوزه تركة ترامب تجاه إيران، وخاصة في ظل المتغيرات الإقليمية الراهنة المختلفة عما كان في عهد الرئيس باراك أوباما أو لرغبة الإدارة "الديمقراطية" أيضا في استثمار هذه التركة في تحصيل تنازلات كبيرة من طهران بشأن الملفات العالقة معها، أي البرنامج الصاروخي والسياسات الإقليمية. 

كما أن تنفيذ الخطوة في آخر أيام ولاية ترامب له دلالة أخرى أيضا وهي محاولة إيرانية لتسجيل نقطة مهمة على حساب استراتيجية "الضغط الأقصى" التي مارسها ضدها خلال السنوات الأخيرة، للقول على ما يبدو أنها جاءت بنتائج عكسية ولم تحقق أهدافها، حيث كان أحد أهم الشروط الـ12 الأمريكية التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بعيد الانسحاب من الاتفاق النووي هو عدم قيام إيران بأي نشاط لتخصيب اليورانيوم على أراضيها. 

بالمجمل، يكشف رفع تخصيب اليوارنيوم إلى 20 في المائة والتهديد باحتمال الذهاب إلى أبعد من ذلك إلى 40 أو 60 وحتى 90 في المائة، "ان استدعت الحاجة" عن تبني إيران استراتيجية نووية جديدة، في مقاربة جديدة للصراع مع الغرب وفق المتطلبات الجديدة وبناء على تجربة الاتفاق النووي المريرة. 

وفي إطار هذه الاستراتيجية، تظهر طهران أمام الولايات المتحدة وأوروبا أنها ذاهبة باتجاه الانسحاب من الاتفاق النووي من دون الإعلان عن ذلك، عبر التخلي عن جميع تعهداتها وكذلك إعادة برنامجها النووي إلى ما قبل التوصل إلى الاتفاق عام 2015، وحتى الذهاب به إلى أبعد من المستوى الذي وصل إليها خلال تلك الفترة، من خلال التلويح باحتمال قيامها بتخصيب اليورانيوم إلى مستويات أكثر من 20 في المائة، وهي أعلى نسبة وصلت إليها قبل الاتفاق النووي. وهنا تؤكد إيران أنها لن تقبل أن تبقى الطرف الوحيد الملتزم بالاتفاق ولو بنسبة معينة.

أما الدافع الآخر فهو تحسين شروط التفاوض في أي مفاوضات محتملة لاحقا بين طهران وواشنطن، وهي مفاوضات من المرجح أن تستأنف خلال المرحلة المقبلة، فضلا عن السعي لفرض أجندتها على المفاوضات في مواجهة الأجندة الغربية الساعية إلى طرح برنامج إيران الصاروخي ودورها الإقليمي للتفاوض، واللذين تنظر إليها كـ"خطوط حمراء".

واليوم السؤال الأبرز أنه كيف ستتعامل الإدارة الأمريكية المقبلة مع هذه الخطوات الإيرانية الهجومية؟ هل ستتجاوب لمدلولاتها في موضوع العقوبات؟ أم أنها ستواصل العمل وفق مقاربة ترامب للصراع مع إيران وتوظف تركته أشد الاستثمار؟